الأربعاء، 17 فبراير 2016

تحرش 1980 من ذاكرة الجنرال

هناك حكاية عجيبة و غريبة حاولت دائما ان اتهرب منها و ان انساها الا انها كانت دائما تقفز امامي بشخوصها و احداثها المؤلمة الحزينة..
منذ عدة ايام و اثناء عودتي بالسيارة وحدي من الاسكندرية قفزت امامي احداث و اشخاص تلك الحكاية..وجدت شخوصها يطاردوني كأنهم كابوس مزعج..بل اصارحكم انني شرعت في كتابتها اكثر من مرة لكني مزقتها و مسحتها من صفحتي علي الفيسبوك..قبل ان انشرها..لكنها عادت الي اليوم و اقتنعت بتدوين تلك الحدوتة المظلمة التي لم اتمكن من محوها من ذاكرتي طوال مدة طويلة تجاوزت خمس و ثلاثين عاما..ها انا اسجل تلك الحدوتة و ارحت ضميري من اوزارها.
في ربيع عام 1980 كنت رئيسا لةحدة جرائم النفس بمديرية امن الجيزة..كان البحث عن الغائبين من ضمن اختصاصي..في احد الايام وصلني خطاب مجهول يتضمن كلمات قليلة مكتوبة علي عجل..مضمونها ان هناك طفلة تبلغ من العمراثني عشر عاما مخطوفة من الجيزة منذ ثلاث سنوات و انها تعمل شغالة لدي سيدة تقيم بالعقار رقم () شارع () بمنشية البكري الا انه لم يحدد رقم الشقة او الطابق.
كلفت النقيب مصطفي العشماوي الضابط بالوحدة بالتحري عن تلك المعلومة..قمنا بحصر جميع محاضر الغياب خلال خمس سنوات السابقة...تم استخراج بيان بحالات الغياب المشتبه فيها و الخاصة بالاطفال..ثم حصر الاشتباه و التركيز على ثلاث حالات كانت احداهما تدعي سحر تقيم اسرتها بحي بولاق الدكرور..مبلغ عن غيابها منذ اربغ سنوات حيث كانت في الثامنة من عمرها..اختفت بعد خروجها من مدرستها و لم تعد لمنزلها..كلفت النقيب مصطفي العشماوي بعمل التحريات بالعنوان الموضح و التوصل الي الشقة و الطفلة خاصة و ان العمارة الموضح عنوانها بالخطاب كانت عمارة مكونة من تسع طوابق و حوالي ثلاثين شقة ..بعد اربعة ايام عاد النقيب مصطفي و ذكر لي انه توصل الي الفتاة و الشقة و قانطيها و ان صفات الطفلة الغائبة سحر تنطبق عليى فتاة صغيرة تعمل خادمة و قدم لنا صورة فوتوغرافية تمكن من التقاطها لها اثناء نزولها و تحدثها مع حارس العقار دون ان يلحظه احد...و بمقارنة الصورة المحفوظة بملف غياب سحر وجدتها مطابقة الي حد ما..الا انه ذكر لنا انها معروفة باسم سعاد..اخطرت العميد حلمي الفقي رئيس المباحث وصولا للحقيقة..اصطحبت مجموعة من الضباط و الشرطة السريين الي قسم شرطة مصر الجديدة حيث تقابلت مع رئيس وحدة مباحث القسم و كان علي ما اذكر الرائد محمد طلبه (مدير امن المنوفية فيما بعد) الذي كلف السيد الملازم اول مصطفي طاهر (الذي حصل فيما بعد علي درجة الدكتوراه في القانون و انتقل للعمل باحدي الجامعات) بمصاحبتنا في تلك المأمورية..وصلنا للعقار المحدد..كانت عمارة كبيرة تقع بالقرب من حلواني فايف ستارز و كنتاكي...صعت مع النقيب مصطفي و الملازم اول مصطفي طاهر للشقة..كان هدفنا الاول في التوصل للطفلو و التحفظ عليها...كانت الشقة بالطابق الخامس او السادس..و كانت التحريات قد دلت علي ان الشقة يقيم بها موظف كبير يعمل بالوادي الجديد و زوجته و ولديه احدهما طالب جامعي و الاخر بالثانوي..وصلت الشقة و طرقت بابها..فتحت لي باب الشقة سيدة متوسطة العمر ترتدي نظارة طبية..ادعيت اقادم من طرف زوجها..فدعتني لدخول حجرة الصالون...ثم ادعيت انني انهج من صعود السلم و استأذنتها في كوب ماء..فنادت علي الخادمة سعاد و امرتها بإحضار كوب ماء..و عندما احضرت "سعاد" كوب الماء امسكت يدها و اجلستها بجانبي..تطلعت الي وجهها فوجدتها تشبه الي حد كبير صورة الفتاة سحر الغائبة منذ اربع سنوات..و سألتها ازيك يا سحر؟ نظرت الي ثم نظرت الي سيدة المنزل و ظلت عينها تدور بيننا الا ان نظرة الخوف و الرعب التي كانت تنظر بها الي السيدة جعلتني احسم هذا الموقف..وجهت حديثي للسيدة...البنت دي اسمها ايه و مين اللي جابهالك؟..ارتبكت حاولت ان تتماسك ..هنا زاد احتمال ان من تجلس بجانبي هي الطفلة الغائبة سحر..ذكرت السيدة ان بائعة خضار متجولة تدعي "ام عادل" بجانب مستشفي ام المصريين احضرت اليها هذه الفتاه منذ عدة سنوات و انها سمعت انها ماتت من سنتين..كان ردي عليها..سوف نتحقق من حكاية ام عادل..اخذت الطفلة و عدت الي المديرية... و في الطريق حدثتها بعد ان طمأنتها ..فأقرت باسمها الحقيقي كاملا كما هو وارد بمحضر غياب سحر..كانت سحر صادقة لا تنظر لشئ محدد و مشتته و رغم استيعابها للموقف الي حد ما..الا ان الخوف و الرعب كان يتملكها..كانت لازالت غير مصدقة لكا ما يحدث ..عندما تتحدث عن السيدة كانت تسبقها بكلمة (ستي)..وصلنا الي المديرية..بمناظرة سحر ..وجدتها حليقة الشعر ترتدي منديل ابيض..لاحظت وجود اصابات و ندوب قديمة في وجهها و يديها و ساقيها و رقبتها..عندما كنت احدثها كانت تتجنب النظر الي عيني..كانت تتكلم بصوت متقطع..حكت لي ان السيدة كانت تسافر مع اسرتها و يتركوها وحدها داخل غرفة مغلقة و تترك لها بعض الارغفة من الخبز و جردل ماء للشرب و آخر لقضاء حاجتها..وجدت صعوبة شديدة في مناقشتها..لن تكن تسترسل في الكلام...كانت تتكلم احيانا و تصمت احيانا اخري...اتخذت قرارا لاول مرة في حياتي الوظيفية..بأن اترك امر مناقشة سحر لزميل آخر..احترف مناقشة الاطفال و هو المرحوم المقدم السيد همت رئيس وحدة حماية الاحداث بالمديرية..كام من المعروف عنه قدرته الفذة علي مناقشة و التحدث الي الاطفال..إكنسبها من خلال عمله لفترة طويلة في هذا الحقل الاجتماعي الحساس و النادر...كثيرا ما توصل لحقائق جنائية فاصلة في قضايا غامضة..تمكن بخبرته من كشف غموض العديد من القضايا و القبض علي مجرمين من العتاه كان اهمها التوصل الي سفاح كان يعتدي على الاطفال و يقتلهم بحي المنيب بالجيزة في السبعينات...اتصلت به تليفونيا بمنزله..شرحت له الامر..فأجاب و هو في قمة السعادة كما لو كان يتأهب لمعركة اعتاد علي خوضها و الانتصار فيها..كان يتحدث بصوت الواثق.."بكرة انا عندي خدمة في حديقة الحيوان بالجيزة بمناسبة شم النسيم و سأكون جاهز لانتظارها باكر الساعة 10 صباحا و ربنا هايكرم ان شاء الله"..في الموعد المحدد ارسلت الفتاة مع مخصوص و بعد ثلاث ساعات عادت و قدم لنا الشرطي المرافق لها مظروف بداخله اربع ورقات مكتوبة بالقلم الرصاص تتضمن تقريرا بمناقشة الصغيرة سحر..لن انسى تلك الورقات الاربعة ابدا..كانت درسا في اهمية التخصص و الحرفية المهنية في سؤال حدث في الثانية عشر من عمرها..تضمن التقرير ان هذه الطفلة تعرضت لتعذيب بدني و نفسي بشع و فظيع بالضرب و الحرق و انها تعرضت ايضا لاعتداءات جنسية من ولدي السيدة..كنت معجبا بتقرير الزميل حتي انني ارفقته بالمحضر دون اي ملحوظات او تعليقات عليه.
بعرض المحضر علي النيابة..امرت بالقبض علي السيدة و زوجها و ولديها ..و بعد التحقيق اودت بحبسهم جميعا علي 1مة التحقيق...ثم اخلي فيما بعد سبيل الزوج بعد اسبوعين..و بعد شهرين اخلي سبيل الولدين...ظلت السيدة محبوسة علي ذمة التحقيق لحين المحاكمة..حيث احيلت القضية لمحكمة الجنايات بتهمة التعذيب و الخطف و الاعتداء الجنسي..خلال تلك الفترة كنت اجريت التحريات عن المدعوة ام عادل التي تبين انها شخصية وهمية.
اذكر ان والد سحر و والدتها و اهلها عندما حضروا لاستلامها ..قال لي الاب و هو يتعرق.. اشكرك...لكني اتمني ان تأخذوا حق ابنتي حتي لا اضطر لاخذه بنفسي..سجلت المذيعة اماني راشد رحمها الله حلقة تليفزيونية مع الطفلة سحر و اسرتها...و كانت آخر حلقة للمذيعة الراحلة.
بعد ذلك سافرت للسعودية ضمن بغثة الحجو عدت بعد شهر...وجدت قرار نقلي الي جهه عمل اخري خارج مديرية امن الجيزة... و بعد عدة اشهر قرأت في الصحف خبر براءة تلك السيدة..و لم اسأل و لم اعرف لماذا..فقد اعتدت خلال خدمتي بالشرطة عندما انقل ان انسي او اتناسى كا ما قمت به.
سحر عمرها الان 47 سنة اتمني ان تكون قد نسيت تلك التجربة المريرة و انها تعيش حياة كريمة.
اتمني ان تكونوا فهمتم مبررات محاولتي نسيان او محو تلك الحكاية البشعة من ذاكرتي...و كانت أيام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق