الجمعة، 23 يونيو 2017

الحب السائل





            يصحبنا باومان في كتاب الحب السائل من النظرية الاجتماعية، التي سبق أن قدّمها في كتب السوائل، إلى تحليل خيارات الفرد الشخصية -العاطفية والجنسية- في زمن الحداثة السائلة... حيث تخلّت الحياة عن صلابة جذورها.
يرصد زيجمونت باومان صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة وكيف دُمِّرت ما تتّسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية -تلقائية-عاطفية، حيث إن المدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات.
فيما يرى بعض الأفراد أن كثرة الدخول في عمليات متعددة من الحب والعلاقات العاطفية، يجعلهم يعرفون أكثر عن خفايا الحب وأسراره المغلقة لكن باومان يؤكد أن ذلك الاعتقاد ما هو إلا نوع من أنواع التضليل والوهم، لأن الخبرة التي يحوزها هؤلاء الأفراد من جراء علاقاتهم المتكررة، ما هي إلا خبرة في "الإنهاء السريع للعلاقات والبدء من جديد" وليست خبرة في الحب ذاته.
إن العلاقات العابرة في ضوء الحداثة السائلة، سعادة حالمة بلا روابط، سعادة لا تخشى الآثار الجانبية وتتناسى تبعاتها، سعادة تخاطب المستهلك قائلة: "إن لم يحقق لك المنتج الرضا الكامل، يمكنك رده واستعادة نقودك كاملة"، إنها أكمل تجسد للحرية من منظور الممارسة السائدة للمجتمع الاستهلاكي.
ويضيف: أنه في ظلّ تنامي السيولة في كل شيء، وتحوّل «المجتمع» إلى مجرد «تجمّع بشري»، تحوّل هذا الإنسان من «وضوح العلاقات الاجتماعية» إلى «غموض الصلات العابرة».
وفي ظل هذا تنمو العلاقات الافتراضية وهي على عكس العلاقات الحقيقية، حيث يمكن خوض العلاقات الافتراضية بسهولة كما يمكن التنصل منها بسهولة. تبدو العلاقات الافتراضية ذكية ونظيفة، بالمقارنة مع العلاقات الحقيقية الثقيلة، التي تتحرك ببطء ويتطلب الخروج منها الكثير من الجهد كما أنها لا تخمد بسهولة.
لقد كبرت العلاقات على الانترنت عبر مواقع المواعدة على حساب الأشخاص، الأماكن التي قد تجمعهم بشريكهم والأعمدة التي تتحدث عن الحب في المجلات والصحف، لكن تبقى ميزة العلاقات الافتراضية كما وصفها أحدهم: “يمكنك دائماً أن تضغط زر الحذف (Delete).
خلال هذه العلاقات الافتراضية يكون التواصل عبر الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي هو الحالة النموذجية للعصر السائل الذي نعيشه، فالعلاقة مؤقتة وليست مبنية على الالتزام والاستمرار. وبنص المؤلف: الاتصالات ضحلة ومختصرة للغاية بحيث يستعصي تحويلها إلى روابط، فهي اتصالات آنية تركز على موضوع الاتصال، ولا تتطرق إلى موضوعات أخرى ولا تأخذ الشركاء بعيدا من الوقت والموضوع الذى تستغرقه كتابة الرسالة وقراءتها، على العكس مما ترتكبه العلاقات الإنسانية المعروفة بنهمها وحماستها من أخطاء وخطايا».
وبشكل عام فإن كتاب الحب السائل يتناول العلاقات البشرية في ظل الاستهلاك وتحولات ما بعد الحداثة، والتي يسميها باومان بالحداثة السائلة، حيث تحول المجتمع في أواخر القرن العشرين من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك. هذا التحول -بزعم بومان ـ أدى لتعطيل الحماية من أجل الاستمتاع بأقصى درجات الحرية، حرية الاستهلاك، حرية الاستمتاع بالحياة.
الحب والموت
يبدأ باومان كتابه بذكر السمات التي ينفرد بها كل من الحب والموت، فهو يؤكد أن الإثنين يختلفان بشكل كامل وتام عن باقي الأفعال البشرية الأخرى المتعارف عليها.
فإذا كانت طبيعة الأفعال البشرية تقتضي وجود "صلة قرابة" أو وجود "علاقة سببية" ما بين مقدمات الحدث والحدث نفسه، فإنه على العكس من ذلك، لا توجد أي علاقة ما بين الحب والموت وما بين مقدماتهما، وذلك أنه لا يوجد أي تاريخ سابق قد يكون مهيأ لهما، بل أن كلاً واحداً منهما "يمثل حدثاً منفصلاً لا يرتبط بأي حال من الأحوال بأي أحداث أخرى مشابهة، إلا في كتابات استرجاعية تطمح إلى تحديد الصلات، أي اختلاقها، وفهم ما يستعصي على الفهم".
وهكذا يقر المؤلف بأنه لا يمكن أبداً أن نتعلم الحب أو الموت، لأن كليهما حدث مفاجئ يبرز من العدم.
ولهذا فإن الحب والموت تحديداً يتخذان موقعاً فريداً ومميزاً في قائمة الأفعال التي يخشاها الإنسان ويخافها، ذلك أن الانسان قد تعود أن يرسم سلسلة سببية معقولة لكل ما حدث من قبل في الماضي، بحيث يستطيع عن طريقها أن يتوقع ما يمكن أن يحدث في المستقبل. والسبب الرئيس في ذلك، أن الإانسان يحتاج إلى الراحة الروحية التي تنتابه، عندما يتأكد من انتظام العالم وبإمكانية التنبؤ بالأحداث المستقبلية.
بتلك المقدمة الطويلة –نوعاً ما- يفتتح المؤلف كتابه عن "الحب في زمن الحداثة السائلة"، حيث حاول زيغموند باومان كعادته في باقي كتبه، أن يؤكد على صعوبة موضوع كتابه، وأن يبيّن ما يتعلق بدراسته من صعوبات وإشكاليات.

الحب الرومانسي والحب الاستهلاكي
يحاول باومان أن يختار تعريفاً محدداً لمفهوم الحب، فيشير إلى كون الحب من المفاهيم التي تحظى بتعريفات متباينة ومختلفة، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة الحب على الكثير من التجارب التي مروا بها في حياتهم، بعكس أسلافهم الذين كانوا يعيشون في العهود القديمة، أولئك الذين كانوا يرون في الحب حدثاً رومانسياً إلى أقصى درجة، حينما كان الحبيب يعاهد حبيبته قائلاً "تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت".
يرى باومان أن السبب الرئيس في نهاية صلاحية ذلك النوع من الحب الرومانسي، هو "التفكيك الجذري لأبنية القرابة التي كانت تدعمه، وكان يستمد منها قوته وحيويته وأهميته الخاصة".
يرى بعض الأفراد أن كثرة الدخول في عمليات متعددة من الحب والعلاقات العاطفية، يجعلهم يعرفون أكثر عن خفايا الحب وأسراره المغلقة، ولكن باومان هنا، يؤكد أن ذلك الاعتقاد ما هو إلا نوع من أنواع التضليل والوهم، لأن الخبرة التي يحوذها هؤلاء الأفراد من جراء علاقاتهم المتكررة، ما هي إلا خبرة في "الإنهاء السريع للعلاقات والبدء من جديد" وليست خبرة في الحب ذاته.
ويستشهد باومان على ذلك، بما ذكره المفكر الألماني إريك فروم عما سماه بـ"خصال الحب"، ففروم اعتقد بأن هناك عدداً من الخصال اللازمة للحب، من تلك الخصال "التواضع والشجاعة والإيمان والانضباط"، وتلك الخصال وحدها هي التي بإمكانها أن تصنع "حباً حقيقياً".
ويلفت باومان نظر قرائه إلى أن مشكلة عصرنا الحقيقية مع الحب، هو أنه لا يوجد مجال كافٍ لتحقق تلك الخصال على أرض الواقع. فبحسب باومان "في ثقافة استهلاكية مثل ثقافتنا، تفضّل المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري، والاستعمال السريع، والإشباع اللحظي، والنتائج التي لا تحتاج إلى جهد طويل، والوصفات السريعة المضمونة"، ومن هنا فإن الوعد "بتعلّم فن الحب" في عصرنا الحاضر ما هو إلا وعد "بتحويل تجربة الحب إلى ما يشبه السلع الأخرى".

الرغبة والحب
يرى باومان أن الرغبة والحب يتشابهان في الكثير من النواحي، وفي الوقت ذاته يختلفان في نواحٍ أخرى، فهما بحسب تعبير باومان "يولدان توأماً، لكن لا يمكن أن يكونا توأماً متماثلاً".
فالرغبة هي اشتهاء الاستهلاك، وهي اشتهاء للتدمير، والاستحواذ والإهانة والاذلال، ومن ثم فالرغبة تدفع إلى تجريد الأخرية من أخريتها كمرحلة أولى، قبل أن يتم اعتصارها إادخالها إلى مرحلة الموت والفناء. ومن هنا فإن المؤلف يؤكد على أن "الرغبة منذ ميلادها مصابة بعدوى اشتهاء الموت".
أما الحب فهو على العكس التام مما سبق، فإنه لا يعتمد على مركزية الذات وهامشية الآخر، بل إنه قوة تتمدد وتتجاوز وتبسط يدها لما هو خارجها، بحيث "تتمدد الذات عبر أخرية الذات"، ومن هنا فإن باومان يقر بأنه إذا كانت الرغبة تبتغي الاستهلاك، فإن الحب يبتغي التملك".
يقر باومان بأن الحب في عصر الحداثة السائلة، أصبح نوعاً من الاستثمار، فالارتباط بعلاقة حب إنما هو سلاح ذو حدين، فالاحتفاظ بالحب (الاستثمار) أو التفريط فيه مسألة تخضع لحسابات وقرارات المحب، ولكن في نفس الوقت تتأثر بقرارات ورغبات المحبوب الذي يعتبر شريكاً أساسياً في ذلك الاستثمار. ومن هنا فإن ذلك الاستثمار يُسبّب الكثير من القلق والتوتر في عصرنا الحالي الاستهلاكي النزعة، لأنه يحمل في داخله جميع السمات والصفات التي تثير مخاوف وهلع التجار والزبائن.
ويشير باومان إلى بعض أنماط الحب السائدة في المجتمعات الغربية، ومن أهم تلك الأنماط، ما يطلق عليه "علاقات الجيب العلوي"، وهي تلك العلاقات التي تسمّى بذلك الإسم لأن المرء يحتفظ بها في جيبه بحيث يمكنه إخراجها بسهولة متى أراد ذلك.
وتتميّز تلك العلاقات بأنها "عذبة وعابرة"، حيث تستمد عذوبتها في وعي الشريكين/ الحبيبين، من كونهما ليسا مضطرين لبذل الجهد طوال الوقت في سبيل الحفاظ على أواصر العلاقة.
ومن هنا فإن باومان، يرى في علاقات الجيب العلوي "التجسيد الحقيقي للاستهلاك اللحظي، والتخلّص الفوري من النفايات".
إذن يمكن أن نشبّه ذلك النمط من العلاقات، بأنها "تقع على الأكتاف مثل عباءة خفيفة حتى يمكن التخلّص منها بسهولة في أي لحظة... وينبغي للمرء أن يحذر من تحوّلها، خلسةً وسهواً، إلى غلاف فولاذي يحيط به".
ومن أهم الشواهد التي يحتج بها باومان، في سبيل إثباته كون ذلك النوع من العلاقات قد أضحى النمط السائد والشائع في المجتمعات الغربية، هو ذلك النجاح الكبير الذي صادفته عدد من المسلسلات الاجتماعية الأميركية الشهيرة، مثل مسلسل "إيست أندرز" على سبيل المثال. حيث يرى باومان أن سر نجاح ذلك المسلسل يكمن في كون أغلب العلاقات العاطفية التي دخلت فيها شخصيات وأبطال المسلسل، هي في حقيقة الأمر من علاقات "الجيب العلوي"، تلك التي يعرفها المشاهدون من خلال إحباطاتهم الحياتية الخاصة أو عبر ما يصل إلى مسامعهم عن قصص فشل علاقات أصدقائهم ومعارفهم.
من هنا يفسّر باومان، السبب الذي قلّل من جاذبية الزواج كرابطة اجتماعية قوية في المجتمعات الغربية، بحيث حلّ محلّه نوع أخر من الارتباط السريع القصير المدى، فـ"المعاشرة الجنسية" من دون زواج تكتسب جاذبية أضحت مفقودة في روابط المصاهرة والنسب التقليدية، وذلك لأن "مقاصدها متواضعة، ولا تؤخذ فيها المواثيق ولا العهود، وإذا أخذت، فهي ليست مقدسة، ولا تفرض قيوداً ولا أغلالاً، ولا تتطلب إشهاراً ولا كاهناً يباركها، فالمرء لا يطلب من هذه العلاقة إلا القليل، ولا يحصل منها إلا على القليل".
وهنا يلتفت باومان إلى أن انتشار تلك العلاقات، قد أدى بالتبعية إلى ظهور مشكلة اجتماعية كبرى، ألا وهي وضع صلات القرابة في مأزق، فالمصاهرة والنسب التقليديان هما الشبكات الطبيعية التي تؤسس لصلات القرابة في المجتمع، وانحسار دورهما وفاعليتهما في عصر الحداثة السائلة، أدى إلى أن "القرابة" قد صار يعتريها الضعف والوهن، كما أن حدودها قد أصبحت ضبابية وخلافية.
من هنا فإن العلاقات القائمة على مركزية "الهوية المشتركة"، قد تم استبدالها بمركزية أخرى أكثر نفعاً في عصر الحداثة السائلة، ألا وهي مركزية "المصالح المشتركة"، ويعلل باومان ذلك بأن الهوية، بما فيها من عناصر الإخاء والقرابة، قد فقدت ما لها من قوة في هذا العصر، وتحولت في معظم الأحيان إلى سلاسل من الروابط الهشة الضعيفة.
ولعل هذا السبب هو الذي دفع "بندكت أندرسون" في كتابه "الجماعات المتخيلة"، إلى البحث في حقيقة تلك العوامل التي قد تفسّر التماهي الذاتي مع فئة كبيرة من الغرباء المجهولين، الذين يعتقد المرء أنه يشاركهم شيئاً بالغ الأهمية، بالدرجة التي قد تجعله يتحدث عنهم باستخدام الضمير (نحن) بدلاً من أن يستخدم (أنا) و(هم).
بعد ذلك يشير باومان إلى أحد أهم تجلّيات عصر الحداثة السائلة، وعن الكيفية التي يؤثّر بها هذا التجلّي على علاقات الحب ما بين البشر وبعضهم البعض، ويقصد بذلك التجلي "الاتصال الافتراضي"، حيث يفرّق باومان بدايةً ما بين نوعين من الاتصال، النوع الأول هو ما يسمّيه الاتصال الطوبوغرافي، ويقصد به الأنماط المعروفة من عمليات التواصل بين البشر، وهي تلك التي كانت مستخدمة على مر العصور.
أما النوع الثاني، فهو الاتصال الافتراضي، ويقصد به أنماط وطرق التواصل الحديثة التي لم تظهر إلا كنتيجة لتطور تقنيات علمية في عصرنا الحاضر.
يؤكد باومان على أن هناك الكثير من الاختلافات ما بين النوعين، ففي الاتصال الافتراضي على سبيل المثال، يكون الهدف الأهم للتواصل هو التواصل فقط لا غير، ويضرب على ذلك مثلاً بما يحدث في عمليات (الدردشة) عبر الانترنت، حيث أدت تلك العملية إلى خلق عدد من "الزملاء المفضلين" لكل فرد، هؤلاء الزملاء يأتون ويذهبون، ولكن دائماً ما يوجد عدد منهم على الخط ويتلهفون لتبادل الرسائل مع غيرهم.
محتوى الرسائل في حد ذاته ليس هو الهدف الأسمى من العلاقة، ولكن تبادل الرسائل هو الهدف والمغذى والغاية.
وتدعم شركات الاتصالات ومواقع الانترنت من تبادلية تلك الرسائل لأسباب تجارية استهلاكية بحتة، فاستمرار تبادل تلك الرسائل هو نجاح لتلك الشركات، بينما الكف عن تبادلها والدخول في حالة من "الصمت الالكتروني" ليس أكثر من دليل على الفشل والتوقف عن الربح. ومن هنا فإن تلك الشركات قد حاولت –قدر جهدها- أن يُزيد المستهلكون من حجم تبادلهم للرسائل، فتم وضع إشارات مقتضبة ورموز معيّنة لاستخدامها بديلاً عن الكتابة العادية المرهقة التي تأخذ وقتاً أطول. وأدى ذلك إلى أن المتواصل/ المستهلك قد صار في وسعه أن يوصل ما يحس به من انفعال وشعور بأقصر الطرق وأسهلها.
المجتمع الحداثي إذن، دائماً ما يحاول أن يجعلك كزبون على اتصال دائم بالشبكة، وهو ما يلفت المؤلف قارئ الكتاب إليه، أنه دائماً ما يجد نفسه مشغولاً بهاتفه النقال، دائماً وطوال الوقت، فهو إما ينتظر مكالمة أو يقوم بإرسال رسالة ما.
حتى أثناء ممارستك لرياضة الجري الصباحية، ستجد نفسك مشغولاً بـ(الشبكة)، فقد حرصت شركات الملابس الرياضية على أن تصمم زيك الرياضي بشكل يراعي وضع الهاتف النقال، بحيث تظل متصلاً بالشبكة في وقت ممارستك للرياضة اليومية.
يوضح باومان الأثر السلبي الذي خلفته التقنيات الحديثة في العلاقات الأسرية التي من المفترض أن يمسك الحب بزمامها، فيقول إنه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، كان من الممكن أن تلاحظ إحدى الأسر المتواجدة في أحد المطاعم، ستجد أن الأب يتابع عمله بواسطة هاتفه النقال، بينما تجد الأم تهتم بطفليها. أما الآن فالوضع اختلف بشكل كامل، فقد صار جميع أفراد الأسرة يمسكون بهواتفهم النقالة، وكل منهم مشغول باهتمامات تختلف عن اهتمامات مرافقيه، وإن كانت جميع تلك الاهتمامات تتعلق بمحاولة التواجد على (الشبكة).
يعتقد باومان أن الإنجاز الأكبر (للقرب الافتراضي) الذي تم خلقه بواسطة التقنيات الحديثة، يكمن في "الفصل بين التواصل والعلاقة، فعلى العكس من القرب الطوبوغرافي التقليدي، لا يتطلب القرب الافتراضي تأسيساً مسبقاً للروابط ولا ينجم عنه بالضرورة تأسيساً لها".
أصبح القرب الافتراضي أكثر سهولة وأكثر جاذبية، خصوصاً وهو يُعطي مزايا التواري عن الأنظار والمشاركة بشكل مرن وسلس، وهو الأمر الذي يجعل من القرب الطوبوغرافي قد أضحى يمثّل عبئاً ثقيلاً على نفوس الأفراد.
يضرب باومان مثالاً على ما يقصده، بالمسافرين في القطار، فلما كانت الرحلة تستغرق زمناً حتى الوصول إلى المحطة المقصودة، فإن أغلبية الركاب يفضلون قضاء هذا الوقت في إجراء بعض المحادثات الهاتفية أو ممارسة أي نوع من التواصل الافتراضي على شبكة الانترنت، بينما يُعرض هؤلاء عن فتح باب الحديث مع جيرانهم في عربة القطار نفسه، وهو ما يراه باومان شاهداً قوياً على جاذبية "التواصل الافتراضي" في عصر الحداثة السائلة.
ويلاحظ باومان أن هناك علاقة طردية تربط ما بين زيادة تقنيات التواصل الافتراضي من جهة وإقبال الأفراد عليها من جهة أخرى، فكلما سهّلت التقنيات الحديثة من أساليب الدخول على الشبكة، كلما مال المستهلكون إلى استخدامها، وفي الوقت ذاته ابتعدوا عن "التواصل الطوبوغرافي" لكونه يحتاج إلى مهارات شخصية مجهدة وصعبة، مثل مهارات "الاختلاط الاجتماعي" على سبيل المثال.
وربما كان هذا يفسّر الذي جعل الفيسبوك وتويتر أهم في العصر الحالي من صالات الديسكو وأندية العزاب، برغم أن الأخيرين كانا حتى فترة قريبة من أهم الوسائط الاجتماعية لشرائح كبيرة من الشباب في المجتمعات الغربية.
ففي الوقت الذي يحتاج فيه التعايش والتأقلم في تلك الأماكن، إلى مهارات لكسب صداقة الآخر والوصول إلى حالة من حالات التفاهم والانسجام معه، فإن الدخول على الشبكة بسيط جداً، ولن يعاني الشاب في سبيل التخلّص من تبعات علاقة فاشلة فيه. فكما قال أحد الشباب في مقابلة شخصية مع باومان "يمكنك دوماً الضغط على كلمة إحذف، وما أسهل في العالم من عدم الرد على رسالة إلكترونية".
فإنهاء التعارف في تلك الحالة، سيتم من دون ضجيج ومن دون صخب ومن دون ندم، والأهم من ذلك كله أنه سيتم من دون معاناة أو تكلفة مادية أو نفسية، وهو الأمر الذي يبحث عنه المستهلك دوماً في عصر الحداثة السائلة.

الحب والجنس
لا يشكّل الجنس حدثاً عارضاً، فالرغبة الجنسية هي إحدى أهم الرغبات والميول والنزعات البشرية الطبيعية، ولكن مع ذلك يؤكد المؤلف أن الطابع الاجتماعي للجنس يتفوق بوضوح على جميع ما سبق.
ويلاحظ باومان أن هناك الكثير من العوامل التي ظهرت في عصر الحداثة السائلة، والتي من شأنها أن تنافس الجنس بقوة في وظائفه الرئيسة التي تميّز بها منذ بدء الخليقة، أهم تلك العوامل هو (الطب).
فالطب بعد الطفرة العلمية الهائلة التي تحققت في هذا العصر، وبعد أن تماشى بدوره مع روح هذا العصر الاستهلاكية المضمون، قد صار وشيكاً من أن يقدم حلولاً سحرية براقة بديلة عن الجنس لتحقق نفس نتائجه الاجتماعية. يقول باومان أنه عما قريب سوف يصبح من المتاح أن يتم "اختيار طفل من كتالوج لمتبرعين رائعين مثلما اعتاد المستهلكون المعاصرون شراء البضائع واستلامها".
يشرح باومان أهمية الجنس في الروابط الاجتماعية، بقوله إنه في الماضي السحيق، كان يتم توزيع الأعمال على جميع أفراد الأسرة، فكان الأطفال يعملون لزيادة ثروة ومدخرات الأسرة، فلما كان الأطفال منتجين، كان من الطبيعي أن يحاول الأب أن يزيد من عدد الأطفال لكون هذا يعني بالتبعية تحسين مستوى الأسرة كلها، ومن البديهي أن نلاحظ أن الطريق الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف، كان ممارسة الجنس.
كما أن هناك شقاً نفسياً آخر مهماً في الموضوع، فباومان يؤكد أن إنجاب الأبناء في السابق، كان يحمل مدلولات نفسية عميقة، تشير إلى محاولة الإنسان الفاني إدراك الخلود وبناء جسور نحو الأبدية.
أما في عصر الحداثة السائلة، فقد تغير الوضع كثيراً، فأصبح العمر المتوقع لأي فرد في الأسرة أكبر بكثير من العمر المتوقع لبقاء "رابطة" الأسرة ككل. كما أن إنجاب طفل في هذا العصر قد أضحى عائقاً في سبيل التخلّص من مشروع استثماري معرض للفشل أي الحب، والبدء في مشروع آخر بديل مشابه.
وفي الوقت ذاته فقد أصبحت كلفة رعاية الطفل عبئاً كبيراً على أي أسرة، فبدلاً من أن يكون الطفل أداة استثمارية منتجة تجلب المال، فقد أصبح منفذاً لإنفاق الثروة والمدخرات، بشكل يفوق أي مشروع استهلاكي آخر.
من هنا نجد أنه قد حدث انفصال ملحوظ وقطيعة تامة وكاملة ما بين الجنس ووظيفة التكاثر، وهو ما يعزوه باومان بالأساس لظهور النمط الحداثي الاستهلاكي.

أحبب جارك كما تحب نفسك
يطرح باومان في كتابه سؤالاً صادماً يتعلق بالسبب والمبرر الذي قد يدفع إنسان العالم المعاصر إلى الالتزام بالتعاليم الدينية التي تأمر وتحض على الحرص على أن نحب جيراننا كما نحب أنفسنا.
يؤكد باومان من خلال طرح هذا التساؤل، أن ذلك الحب لن يتحقق إلا بعد أن يتأكد الفرد من احترام وحب جيرانه له أولاً، فالحب هنا لا يمكن أن ننظر له إلى كونه قيمة مجردة، بل إنه في الحقيقة مصلحة ومنفعة تبادلية، ولا يمكن أن يتحول هذا الأمر الديني الأخلاقي إلى واقع عملي وملموس إلا بعد أن يأخذ شكله التبادلي.
من هنا يصل الكاتب إلى نقطة مهمة، ألا وهي أن ضرورة حدوث "تبادلية أخلاقية"، تستوجب في الوقت ذاته حدوث حالة من "المساواة".
فكما يقول باومان إن المساواة في الاحترام والحب هي المفتاح المناسب لفتح أبواب العلاقات الإنسانية بين الناس وبعضهم البعض، كما أنها – أي المساواة-هي "أصل الأديان كلها".
ومع الولوج في عصر الحداثة السائلة، يميّز باومان شعوراً آخر موازياً للشعور بالمساواة، وهو ما يسمّيه بـ(الروسنتيما) ressentiment)).
والروسنتيما هي كلمة فرنسية بمعنى الاستياء، وقد أعتاد الكثير من الفلاسفة على استخدامها للإشارة إلى معاناة الأفراد الأقل شأناً من هيمنة ونجاح وتسلّط الأفراد الأعلى شأناً، ولكن باومان يستخدمها بمعنى مختلف في سياق توصيف ظواهر الحداثة السائلة، فهي -بحسب ما أورده باومان-"شعور أقرب للظهور ما بين المتساويين"، وهو يؤدي إلى حدوث حالة من التنافس المحموم بين الأفراد وبين بعضهم البعض للحصول على أنصبة متشابهة بهدف "رفع أقدارهم والحط من أقدار الذين يشبهونهم".
الروسنتيما إذن تعارض مبدأ حب الجار الذي نادت به الأديان والمنظومات الأخلاقية القديمة، وتزداد حدتها بشكل كبير مع تنامي ظاهرة العولمة في العصر الحاضر.
فالغرباء على وجه الخصوص، يعانون أكثر من غيرهم بفعل شعور الغربيين بالروسنتيما، فاللاجئون والمنفيون والمساكين الذين يطرقون أبواب الغربيين يذكرونهم دائماً "كم هو أمننا غير آمن، كم هي راحتنا هزيلة وهشة، كم هي ضعيفة حماية سلامنا وهدوئنا"، يقول باومان.
إذن، يوجد دائماً خوف من المجهول ومن المستقبل، ومن هذا الخوف الأبدي ظهرت مخاوف مستمرة من الأجانب ومن عدم الاستقرار.
يلاحظ باومان أنه في المراحل الأشد تنافساً في المجتمعات القابعة تحت سطوة وتأثير عصر الحداثة السائلة، فإنه دائماً ما يتم إبراز ورقة "الخوف من الآخر" بغية الوصول إلى السلطة.
من أهم الأمثلة على ذلك، أنه في المراحل التمهيدية للمنافسة بين جاك شيراك وليونيل جوسبان على رئاسة فرنسا، تدنت المنافسة السياسية إلى مستوى متدنٍ، بحيث أضحت مزاداً علنياً يتنافس فيه كلا المرشحين على الدعم الانتخابي، بواسطة التلويح بفرض إجراءات أكثر صرامة وقسوة ضد المجرمين والمهاجرين، ولا سيما ضد "المهاجرين الذين يولّدون الجريمة، والجريمة التي يولّدها المهاجرون".

هل من فرصة للحب في المستقبل؟
يناقش باومان هذا السؤال، عن طريق مناقشة فكرة "التعايش السلمي بين البشر" ومفهوم "المواطنة العالمية"، حيث يؤكد أنه في العقود الماضية كان هناك ثمة تأكيد على أن القارة الأوروبية هي مركز العالم وقبلته، بحيث كان النمط الأوروبي في الحياة هو النمط الوحيد المتقبل على كونه نمطاً حضارياً. ولكن مع بدء عصر الحداثة السائلة، ظهرت الولايات المتحدة الأميركية في الصورة، وسحبت البساط من تحت أقدام الدول الأوروبية العظمى، لتحدد واشنطن المعايير والقيم الجديدة في النظام الكوكبي الجديد.
وبذلك أصبحت أميركا هي مركز العالم، بينما اكتفت أوروبا بلعب دور المشاهد المتابع الذي لا يبالي بما يدور حوله من أحداث.
ويعقد باومان، مقارنة بين "الإمبراطورية الأميركية" الحالية ومثيلتها الرومانية الغربية الغابرة، حيث يؤكد أن كل من القوتين قد حاولت أن تفرض سطوتها وهيمنتها تحت شعار يدعو إلى السلام.
فكما أعلنت روما حالة "السلم الروماني"، فإن أميركا ترفع الآن شعار السلم الأميركي، ويؤكد باومان أن الهيمنة الأميركية المتشحة بالثوب الأخلاقي، مصيرها إلى الزوال والعدم، فهي لن تستطيع أن تبقى صامدة أمام التحديات المواجهة لها، والتي يُشكل الإرهاب الجزء الأعظم منها.
فأميركا التي وصلت حالياً إلى منتهى قوتها، لم تستطع أن تضع حداً للإرهاب الموجّه لها، بل إن عدد العمليات الإرهابية التي توجّه ضد المصالح الأميركية في تزايد واطراد مستمرين.
أما أوروبا فهي تواجه عدداً من المشكلات الخطيرة التي تقف أمام ريادتها الحضارية المستقبلية، فهي منشغلة بتحقيق وإقرار الوحدة ما بين دولها وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي للدول المتأزمة فيها من جهة، كما أنها تسعى إلى اللحد من موجات الهجرة غير الشرعية الأتية من الجنوب من جهة أخرى
من هو زيغموند باومان؟
ولد باومان في بولندا عام 1925م، ودرس علم الاجتماع في مرحلة دراسته الجامعية، وعمل بعد تخرجه أستاذاً جامعياً في هذا التخصص، وفي عام 1971م خرج مطروداً من بلده، بعد أن عارض النظام الشيوعي القائم بها، واستقر في إنكلترا، حيث عمل أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ليدز.
وقد عُرف عن باومان اهتمامه وتخصصه في دراسات الحداثة والظواهر والتجلّيات المرتبطة بها في العالم المعاصر عموماً، وفي المجتمعات الغربية على وجه الخصوص.
يقسّم باومان الحداثة إلى طورين متمايزين، الطور الأول، وهو ما يسمّيه باسم (الحداثة الصلبة) وهي تلك التي تم تدشينها في عصر التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر، وتمخضت عنها مفاهيم كبرى مثل (الدولة الحديثة-المجتمع-الثقافة).
أما الطور الثاني، فهو ما يسمّيه باسم (الحداثة السائلة)، وهي التي برزت على السطح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن العشرين. ويسمّي الكثير من الباحثين تلك المرحلة باسم (ما بعد الحداثة). أما باومان فقد أعتاد أن يصفها بالحداثة السائلة، بسبب اعتقاده بان صلابة المرحلة السابقة قد ذابت وتفككت بفعل الكثير من العوامل والعناصر المتداخلة، ما نشأ عنه حدوث "تداخل في الحدود وتراخت السمات وازدادت ضبابية وتشابهت".
وقد أولى باومان في أبحاثه المتعددة اهتماماً كبيراً بتوصيف سمات عصر الحداثة السائلة، فكانت من أهم الكتب التي نشرها والتي تعلقت بذلك الموضوع "الحداثة السائلة-الحب السائل-الأخلاق السائلة".