الأحد، 13 يناير 2019

مشهد من الجنة





"ماما.. ماما.. اصحي قومي من النوم، ماما.. ماما.." يقولها بفزع ثلاثة أطفال مُلتفّين حول سرير أمهم (أحمد 7 سنوات/ ومحمد 6 سنوات/ ونورين 5 سنوات).
الأم فزعة: إي يا حبيابى؟؟ خير؟؟ في إي؟؟ صحيتو بدري ليه كده؟؟ واقفين كده ليه؟؟
محمد الصغير: ماما تليفونك بيرن طنط دعاء بس أنا مُش عارف اسمك التليفون ولوني بقى أبيض.
أحمد: ماما اصحي احنا خايفين أوي.. في ناس كتير في شقتنا مُش عارفين مين دول.. ده غير إننا بقى لونّا أبيض حتى إنتي كمان شبه كارتون كاسبر وهو بيطير.
الأم بحركة سريعة خاطفة تقوم من نومها محتضنة الثلاثة: متخفوش.. اطمئنوا.
يرد الصغير محمد: ماما أنا مُش فاكر حاجة, آخر حاجة اتعشينا امبارح وشفنا توم وجيري, كمان بابا جه، ادّاني حقنة وأنا مُش تعبان وخفت جدًّا لما لقيته فِ الأوضة عَسرير أخويا وكله دم كتير, فعملتها على نفسي... أنا خايف أوووي.
الأم تُقبّل صغيرها المرعوب وهي تائهة لا تدري من أمرها شيئا... أصوات كثيرة بالصالة وغرفة أطفالها.
أحمد: حتى تيته يا ماما بره بتعيط وتصوت ومنهاره خالص..
تُمسك نورين بيد أمها ليخرجوا جميعا من غرفة الأم ممسكين بيد بعضهم البعض بكل قوة.
الأم متسائلةً: ليه جدتكم بتعيط؟؟ ومُش شيفتنا؟؟ ولا سمعانا؟؟ وأبوكم ماله قاعد هادئ كده؟؟
الأم للجدّة: بتعيطى ليه ماما؟؟ احنا جنبك أهو.. إحنا هنا.. ماما.. ماما.
أنا وأولادي طيف أبيض لا أحد يسمعنا... لا أحد يرانا.
تحتضن الأم صغارها الجوعى وتجلس جنب والدتها لتسمع وتراقب الغرباء بشقتها.
****
تنظر الأم للساعة
الواحدة والنصف ظهرا
جوزي رجع بدري من الشغل أكيد محتاج يتغدّى... هو كمان مُش سامعني ولا شايفني
إي اللي بيحصل في شقتي؟؟ وليه كلّ الشرطة دي؟؟
يقطع صوت شرودها صوت الضابط موجها حديثه للجدّة: إهدي يا ست.. خدوها برّه موجها حديثه لفريق عمله.
تنهار الجدة مغمًى عليها ليطلبوا لها سيارة إسعاف... أما الزوج فهو هادئ هدوءًا غير مبرر.
***
الضابط يُخرج الجميع من الشقة حتى يتسنى له رفع البصمات من المكان... وضابط آخر يستجوب الجارة (طنط دعاء)، والأم وأبناؤها الثلاثة يتابعون الموقف.
الضابط: احكيلنا يا ست إيه اللي حصل؟
الجارة: الساعة 12 الظهر سمعت صريخ أم أحمد بتقول: حرام عليك يا عمر.. حرام عليك يا عمر.. إنت بتعمل إيه؟! وتستغيث وتصوّت لمدة دقيتين كده..
الضابط: وبعدين؟!
الجارة: من عادتنا لما بنصحى الصبح نبعت رسالة لبعض... فبعتلها رسالة قلت لها: (صباح الخير)
حوالي 12 وربع... مردتش واتّاخّرت، فاتصلت عليها برضو مردتش.
الساعة 12 ونص ردّت قالت لي: (صباح الفلّ)... قلقت أكتر؛ لأنها في الغالب كانت لازم تتصل عليَّ أو تردّ على تليفوني.
سمعت صوت باب شقّتها بيفتح، فجريت فتحت باب شقّتي لقيته جوزها المهندس عمر أول ما شافني بصّ لي ودخل بسرعة تاني وقفل فِ وِشّي الباب... من الدهشة فِضِلت واقفة مكاني لقيته طلع تاني بس لابس ترينج.. كان لابس قميص وبنطلون أول مرّة.
قفل الباب بشويش وابتسم وقال لي: صباح الخير، أصل العيال نايمة جوّه... الحقيقة ابتسمت، مردتش عليه.
دخلت شقتي اتصلت عليها كتير وسامعة صوت تليفونها من شباك المطبخ ومحدش بيرد.
قلقت أكتر، طلعت تاني أخبّط على باب شقتها وأرنّ الجرس، محدش يرد برضو... قلقت أكتر.
دخلت شقتي، ودماغي تودّي وتجيب، وصلّيت الظهر ودخلت مطبخي، كل شوية أبصّ عليها، وناديت عليها بردو، قلت يمكن لو نايمة تصحى، مردتش بردو... لحدّ بقى ما حصل اللي حصل الساعة واحدة ونص.
الضابط: إي بقى اللي حصل بالضبط الساعة واحدة ونص؟
تُكمل الجارة: اتفجئت بصوت ودربكة قدام باب شقتها, لقيتها الحجة والدتها والبواب.
الضابط: يعني الحجّة والدتها هي أول وحده وصلت وشافت المنظر؟
الجارة: لأ، عمر الأول رجع تاني بعد منزل، واتصل بحماته، جَت وجاب البوّاب، والناس بدأت تتلمّ بطبيعة الحال... بس الحجّة اللي جت وهي اللي قالت اتصلوا بالشرطة.
*****
الضابط للبواب: احكيلنا اللي حصل وازّاي كاميرات البرج كانت متعطلة وإنت ساكت؟
البواب: والله يا بيه الكاميرات كانت شغّالة لحدّ امبارح الساعة 9 قبل ما أمشي وشيفها بعيني... جيت الصبح لقيتها عطلانة.
الضابط: المهندس عمر رجع إمته امبارح؟ ونزل إمته الصبح؟
البواب هو رجع الساعة إلا ربع سلّم عليَّ وهو طالع وسألني: هتمشي إمته... قلت له: مروّح أهو تؤمر بحاجة يا بشمهندس؟ قالّ لى: لاء. إنما صبي البقال قالّ لي إنه نزل الساعة 11ونص بالليل دخل السوبرماركت، لفّ فيه وطلع مشتراش حاجة.
والصبح نزل الساعه 9 عادي في ميعاد شغله، هو شغال في الوحدة الصحية هنا، ورجع الساعة 12 الظهر ونزل تاني 12 ونص ورجع تاني الساعة واحدة وربع كده...
****
ضابط لضابط آخر: خلاص رفعنا البصمات والذهب مسروق.. بس مفيش أي كسر في شبابيك أو باب الشقة.
الأم وأبناؤها الثلاثة في ذهول ممّا يستمعون إليه ويسألها الأبناء: إي الكلام ده يا ماما؟؟ وإحنا كمان جعانين..
الأم: اصبروا شويه.
****
الضابط للزوج المهندس عمر: طبعا إحنا مقدّرين صدمة حضرتك... بس محتاجين نسألك كام سؤال.
الزوج بدموع مفتعلة: اتفضّل يا حضرة الضابط.
الضابط: إي اللي حصل بالضبط؟
الزوج: رحت الشغل عادي في معادي الصبح الساعة 9 رجعت الساعة 1 الظهر، لقيت المنظر اللي إنتو جيتو شفتوه ده! وتتعالى أصوات بكائه.
الضابط  طب اهدى بس: ليه اتصلت بحماتك الأوّل؟؟ ليه مكلمتش الشرطة الأول؟
الزوج مُتباكيًا: كنت منهار ومُش عارف أتصرف، ده اللي حصل.
الضابط يلاحظ أنّ الزوج يرتدي ترينج فوق قميص رجالي مبقّع نقط بالدم...
الضابط: وإي بقع الدم دي؟؟ وصلتلك إزاي؟
 الزوج بعد دقيقة صمت: أصلي بوّست العيال؟
الضابط: بس دي طرطشة دم مُش بقع كبيرة؟؟؟ تعرف إن حضرتك هادي أووي ومفتعل على زوج اتفاجئ بمراته وولاده التلاتة مقتولين ودمهم سايح في الشقة كلها!!


*****
الأم يبدو أنها بدأت تدرك الموقف، هي وأولادها مقتولين! معقول؟؟ نحن عبارة عن أطياف، وهذا يفسر كل شيء.
الأبناء الثلاثة بصوت واحد: إي اللي حصل لنا يا ماما؟؟ تحتضنهم بشدة باكية ولا تنطق.

****
 الزوج يدرك أن الضابط يشكّ فيه.. فيفتعل هبوطًا ويقع على الأرض دون كلمة.. يُدرك الضابط حقيقة الأمر...
يلتفّ الضابط وآخران حول الزوج المغمى عليه... ليأمر من حوله: قلعوه هدومه..
يستفيق الزوج جاهدًا: لا أنا كويس مُش مخنوق مُش عاوز أقلع.
الضابط: لا ما احنا مُش بنقلعك عشان إنت مخنوق... قلّعوووه..
وقد كان عند قلع ملابسه... كان يرتدي قميصًا وبنطلونًا بهما الكثير من بقع الدم، وفوقهم ترينج آخر.
الضابط: تعرف إنك كداب؛ لأنك مبستش ولادك, لو بستهم كان هيكون في بقع دم كبيرة مُش مجرّد نقط طرطشة من فوق لتحت كده.
الزوج منهارًا: مُش عارف بتتكلم على إي يا حضرة الضابط؟؟ أنا بوست ولادي..
الضابط: مدام دعاء جارتكم سمعت صريخ مراتك, وشافت لما دخلت غيّرت هدومك، ونزلت تاني بسرعة. يا ترى ليه؟؟ حتى زمايلك في الشغل قالو إنك مرحتش الشغل اليوم ده زي ما قلت.
الزوج بصوت عالٍ: أيوه أنا اللي قتلتهم... أيوه أنا اللي قتلتهم... اشنقوني... اشنقوني... أنا اللي قتلت مراتي وولادي.

***
يرتعب الصغار بذهول ويتمسّكون بشدة برقبة أمهم... إي اللي بابا بيقوله ده يا ماما؟؟
***
الزوج: أيوه أنا اللي قتلتهم, أنا قتلتهم بدموع التماسيح يقصّ ما حدث:
إمبارح رجعت عطلت كاميرات البرج بعد ما الغفير روّح, ووقفت شويه بالسوبر ماركت أستطلع المكان, وبعدين رجعت البيت، كان الولاد ناموا, دائمًا زوجتي كانت بتحاول توفّر لي الراحة والهدوء.
قضيت ليلة رومانسية للغاية مع زوجتي.. وبنيتي قتلها.. كنت المرة الأخيرة.. حبيت أودعها .
وتاني يوم الصبح الساعة 9 نزلت عادي لشغلي...
يقاطعه الضابط: بس إنت مرحتش الشغل, بشهادة زمايلك.
يبتلع الزوج ريقه ويتابع بيأس: لأ أنا رحت البنك عملت إيداع فلوس.
الضابط: إمته؟
الزوج: العاشرة والنصف أخدت رقم عميل من البنك وخرجت أرتب لعملية القتل، وعدت بعد القتل أودع الفلوس.
الضابط: وعملت إيه من 9 صباحا إلى 10ونص؟
الزوج: تناولت فطاري وشربت شاي بكافيه ورتبت أفكاري ورتبت لكل شيء بدماغي, رجعت البيت الظهر، دخلت أوضة أحمد ومحمد، الأول خدّرتهم.. وبعدين دخلت على مراتي كانت لسّه نايمة، تأمّلت وجهها للمرة الأخيرة وقرّبت منها خنقتها بحبل الستارة.
اتخضّت وصوّتت أنا كمان اتخضّيت كنت مخطط أقتلهم في هدوء... كان في عَ الكمديون طبق فاكهة وسكّينة من ليلة امبارح آخر حاجة قدمت هالي مراتي... أخدت السكّينة ودبحتها.. دبحتها.. دبحتها.
لا مدبحتهاش بس أنا فصلت راسها عن جسمها خالص...
في الوقت ده مدام دعاء بعتت لمراتي رسالة: صباح الخير..
شفت الرسالة وخت التليفون في إيدي وطلعت، كنت لابس جوانتي عشان البصمات... دخلت أوضة الأولاد، دبحت محمد ودبحت أحمد، فصلت راسهم عن جسمهم خالص.
في الوقت ده نورين شافتنى وأنا بدبح إخوتها، كانت واقفة على باب الأوضة... كانت نايمة بالصالة، وأنا مختش بالي ومنتبهتش حتى أدخلها أوضتها... لا يمكن أنسى نظراتها ليّا وقتها وإيدي كلها بدم إخواتها منطقتش ولا صوتت حتى أفتكر إنها ماتت في إيدي قبل ما أقتلها هي كمان -عملتها على نفسها من الخوف- ...فصلت راسها عن جسمها هي كمان وسبتها بالصالة.
أخت دهب مراتي والسكّينة كلّه في كيس واحد والجونتي ورديت على مدام دعاء: صباح الفلّ.
وأنا بفتح الباب حسّت بيّا ففتحت بابها هي كمان، فأخت بالي ودخلت بسرعة لبست الترينج فوق هدومي.
رجعت البنك عملت إيداع وبطريقي رميت الدهب والجونتي والسكّينة.
رجعت اتصلت بحماتي كان لازم تيجي وتشوف أنا عملت إيه في بنتها.. كنت حابب أنها تتفرّج عَ منظر أحفادها وبنتها الأول... كلمتها وقلت لها الأولاد وأمهم مدبوحين، تعالي بسرعة. وناديت على البواب وبدت الناس تيجي على صوت حماتي واتصلوا بالشرطة.
الضابط مقاطعا: وليه مكلمتش الستّ والدتك كمان؟
الزوج: أمي!! لا طبعًا خفت عليها من المنظر.. ممكن تروح فيها.

***
الأبناء باكين: إيه يا ماما اللي بابا بيقوله ده؟؟ هو قتلنا بجدّ؟؟
تردّ نورين: أيوه بجد أنا شفته يا أحمد.. شفته يا محمد... أنا شفته يا ماما... ورغم إني مت لوحدي يا ماما بس دبحني بردو بالسكّينة.
الأبناء: ماما شوفي لفّوا جسمنا في إيه؟؟ همّا هيودّونا على فين؟؟
الأم بعدما احتارت الكلمات على شفتيها: المهمّ إنّنا مع بعض... أي مكان.
***
الضابط بعد لحظات صمت موجها حديثه للزوج: ليه بتتكلم عن الحادثة وكأنّك خبطت شخص غريب بعربيتك وإنت ماشي؟؟ ليه مرتاح الضمير كده؟؟ كنت متخيّل إزاي إنك هتقدر تكمل حياتك من غيرهم؟؟
الزوج: أنا كنت بخطط لقتلهم من 6 شهور.
الضابط: يعني كان في محاولات لقتلهم قبل كده؟
الزوج: قبل الحادثة دي بكام ليلة جبت لمراتي عربية هدية وكانت الفرامل سايبه, وقلت لها خدي الأولاد واخرجى بيها, بس وقفت العربية بفرامل اليد ورجعوا البيت, توقعت إنّي هحضّر جنازتهم، والموضوع يعدّي حادثة وخلاص.
الضابط: وليه تحديدا قتلتهم يوم فرح خالتهم؟
الزوج: اللي حصل..
الضابط: في مشاكل بينك وبين حماتك أو أسرة مراتك؟
الزوج: لا خالص إحنا كنا متغدين عند حماتي قبل الحادثة بيوم.
****
الأم والأبناء الثلاثة في حالة لا توصف.. الأولاد متسائلين: ليه يا ماما بابا عمل كل ده وإحنا بنحبه؟؟
الأم: مُش عارفة.
الأبناء: طب إحنا ميّتين إزاي ومع بعض وبنتكلم كده؟ وشايفين الناس وسامعينهم؟
الأم: مُش عارفة.
الأبناء: طب هما مُودّين جسمنا على فين يا ماما؟؟
مُش لاقيه كلام أقوله يا ولاد، متصعبوش الأمور عليَّا... كفاية إننا مع بعض ده المهم, نفضل مع بعض.
****



الضابط  للزوج: تحب تحضر الجنازة؟؟
الزوج بعد تفكير: لأ.
الضابط اتفضل معانا دلّنا على أداه الجريمة ومكان  الذهب... واستعد لتلقي مصيرك.
****
الأطفال الثلاثة للأم: ماما الحقي إي ده إحنا طايرين في السما... يالله بينا يا أحمد نجري...
نورين فرحة: ماما في شجرة هناك ممكن تسمحيلي أروح عندها؟
الأم مبتسمة مطمئنة لما تراه: روحي يا نورين... العبوا مع بعض يا أحمد إنت ومحمد.
الأطفال: هو إحنا رُحنا فين يا ماما؟
الأم بارتياح: روحنا الجنة.

رسالتي قبل الأخيرة



      الحياة لا تمنحك الكثير من الحظ, وعلى ما يبدو أن العالم ليس مكاناً لتحقيق رغباتك وأمانيك، هذا الدرس تعلّمته مقابل حياتي.
نشأت بدار للأيتام كانت عائلتي وكانت حياتي, لم أعرف غيرهم أخواتي, كانت الحياة بين يديّ ألعب وألهو وأمرح، الحياة بدور الأيتام ليست قاسية كما بالتليفزيون، فهناك رحماء وهناك ربّ آمنّا به ويرعانا بالمقابل.
ولكن كفتاة نشأت يتيمة الأحلام ليست حقّاً من حقوقي, ولم أفكر أن أحلم كنت راضية تمام الرضى بحياتي.
مرّت الأيّام سريعة متعاقبة وكبرنا وأصبحنا نُفكّر بالحبّ, ليس فقط من يحبّنا ولكن من نحبّه أيضا.
فالرغبة بالاختيار شعور لن تفهمه مثلي, كنت أودّ الاختيار ولو مرّة بحياتي حتى لو كانت الأخيرة.
ولكن وكما أخبرتك العالم ليس مكانا لتحقيق الرغبات ومثلنا لا يملك الحلم.
ومع ذلك كل ما عليك فعله هو الإيمان بما تريدين، سيصبح حقيقة يوماً ما، الإيمان فقط وكنت أملك الكثير منه.
طبعاً ولأني فتاة قاهرية تربّيت بالجيزة فكل ما كنت أتخيّله وأسمع عنه القاهرة لم أكن أعرف الكثير عن المحافظات أو أتخيّل وجود عالَم آخر غير الجيزة.
إلى أن أتى إلينا يوماً ما مُشرف بالدار جديد يُدعى محمود من محافظة اسمها كفر الشيخ، كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها عنها ولم أكن أعرف الكثير عمّا يُقال حولها من نكات عرفت فيما بعد، أنتم لم تُكفّروا الشيخ أنتم أطيب ناس فقط كان قليل الإيمان.
ضحكت والدموع تملأ عيوني لهند تلك الفتاة التي تعرفت عليها صدفة وكأنّه ساقني شيء ما لها لتعلمني درساً, بفراش موتها الأخير أجلس بجانب سريرها تقصّ لي حكايتها.
لما يلفت محمود نظري كثيرا، لم يكن وسيماً لم يكن مثل الهنود أو الأتراك، وكنت طموحة بأحلامي؛ لإدراكي التامّ أنّني لقيطة لن أنالها يوما ما.
ولكن لسبب مجهول لا أعرفه وقع بحبي هذا الشابّ، ولم أقاوم إعجابه، في الحقيقة هو أول من أحبّني بصدق، شعرت بذلك.
ومثلي لا تمتلك الكثير لتخاف عليه فلم يكن لي عائلة أو أخوة أو أب أو أم، لم أمتلك سوى حبّي.
ومثل هذه الأمور لا تعيش بالسرّ طويلاً سرعان ما عُرف الأمر. وفاجأني محمود بأنّه سيتزوّجني, وتركني وعاد لبلده ولأهله وعائلته ليواجههم بحبّه من فتاة مجهولة النسب.
وكما يقولون الحبّ أعمى وهو كذلك فعلاً لم يضع بالحسبان ردة فعل الآخرين لم يتوقّع كم المعارضة وحجم الرفض . فرحته أخرست لساني.
ومرّت ثلاثة شهور كدت أجنّ، وفقدت الأمل، وأدركت أنه لن يعود, جميع من في الدار قالوا ذلك، ولكن قلبي كان ينبض حبّاً وشوقاً.
وفي أحد الأيام طلبت فتاة غريبة لا أعرفها من قبلُ رؤيتي، كنتُ بحالة يُرثى لها؛ لأني اكتشفت إصابتي بسرطان الغدة الدرقية المرحلة الرابعة ومتأخّرة واستسلمت لأمري وحالي.
وجدتها صديقة محمود أرسل لي معها هاتفاً محمولاً سرّاً حيث إنّه ممنوع بدور الأيتام، وعادت روحي لي مرّة أخرى، وهاتفته ونسيت كل شيء مرضي وموتي. استيقظت أحلامي مرّة أخرى، فأحياناً يمكن العيش مع الألم كرفيق.
وحدث ما توقعته، أمه ترفضني تمام الرفض أخبرته نصاً: إنها تريد نسباً يشرف وليست فتاةَ ملاجئ الله أعلم بحالها.
أمّا والده فكان أكثر رحمة، أخبر محمود أنّ أمه هربت من بلدها بورسعيد ومن أهلها و أخواتها وجاءت معه لكفر الشيخ من أكثر من 30 سنة وتزوجنا وعشنا قصة حب صمدت عبر الزمن، لا تتخلى عن فتاتك أبداً يا محمود فالحبّ كنز والكنوز فرص.
وهنا اعتبرناها موافقة ضمنية خاصة بعد ما منعته أمه من العمل بالدار والعودة للجيزة مرة أخرى.
فقرّرت الهرب من الدار لما تسمى كفر الشيخ طبعاً؛ لكِ أن تتخيّلي بنت يتيمة لم تخرج من الدار وحدها يوما ما أو تعرف حتى الطريق لأي مكان ولا حتى الموقف!
هربت من الدار ذات نهار وسألت عن الطريق، لم يكن بيني وبين محمود ترتيب أخبرته أنّي وصلت الموقف وسأستقلّ الميكروباص لأجده بانتظاري، طارَ فرحاً بالتليفون.
وبالطريق مرت حياتي كلّها أمامي, وبالنسبة لمرضي فتوقّفت عن المأكولات البائسة للعلاج، أنا سأموت وإن كنت كذلك فيجب أن يكون بين أحضان محمود، محمود الذي ربّما يقف قلبه إذا علم بالأمر.
وصلت لكفر الشيخ وجدته بانتظاري، ساعدنا الأصدقاء واستضافونني عندهم, وكانت هي حياتي التي عشتها عشرة أيّام حرّة، حرّة بقراراتي وبحياتي وباختياراتي, لم أندم كان قراراً صائباً وتطلب مني شجاعة كبيرة لإخباره بمرضي وأخبرته.
فأسرع بترتيبات الزواج أستأجرنا شقة واشترى والده لنا العفش كاملا حباً وساعدنا الأصدقاء، كم قابلت بهذا البلد كرماء!
وتزوّجنا خلال أسبوع وكأنه حلم سريع، ومع حملي زاد مرضي وجنّ جنوني، الحياة ما زالت أمامي وما زال لدي الكثير لأفعله ولكنها مشيئة القدر.
الأطبّاء أكّدوا أنّي لن أعيش والجنين أيضاً, أصبحت ممتنّة للأيام السعيدة التي عشتها مع محمود.
وذات صباح وكنت بشهري التاسع وصلنا خبر وفاة محمود بحادث سير, أغميَ عليَّ حينها وتمّ نقلي للمشفى ووضعتُ ابنتنا أسيل كما اتفقنا على تسميتها، ودُفن محمود ودُفن قلبي معه.
بعد مرور أسبوع من الولادة توفيت وأسيل بخير خالية من السرطان وهي الآن تعيش مع جدّها وجدّتها عمرها ستّ سنوات الآن.
أكثر ما كانت تخشاه هند أن تُنسى وحبيبها كلّنا نتمنى ألّا نُنسى بشكل أو بآخر.
أمّا عن رسالتها الأخيرة في أسبوع وفاتها فهي (أوصيكم بابنتي خيراً، علّموها الحبّ، ذكّروها أنّه كان لها أبوان مُحبّان قليلا الحظّ).