الخميس، 9 نوفمبر 2017

ديجافو_بين_مرآتين


(قصة قصيرة.... بس مش قصيرة أوي يعني)
-بقلم ياسين أحمد سعيد الاسوانى
يهوى شمس مراقصة علامات الاستفهام، لا يمكن أن تتخيل كم الأسئلة الغريبة التى تتسلل لخاطره!
ذات مرة أمسك هاتفه، وضغط رقمه هو، استجابة لتساؤل عبثى لذيذ حول: ماذا لو طلبت رقمى، هل سيرن الهاتف حينها؟
- ماذا لو تواجدت بين مرآتين، كم نسخة منى سأرى؟
ثم انتبه فجأة، عندما فرض سؤال ألح، نفسه:
- لماذا أغلب أسئلتى تتمحور حول هاجس التناظر، حول ما يرتد لى من انعكاس؟!
أأ...، لم يستطع أن يحدد بالضبط، حتى أنه يمقت النظر فى المرايا، وطوال حياته خلت غرفته من أحدها، حتى يخيل إليه أنه نسى ديكور الملامح، التى ترتص على خلفية وجهه الأسمر.
ما السبب إذن؟!
عجزت أصابعه أن تقبض على إجابة مقنعة، لكم هى صعبة تلك الأسئلة التى تتعلق بدهاليز الـ (أنا).
قادته قلة الحيلة إلى أن يفعل ما يفعله أى طالب عاقل فى امتحان، سيبدأ بالأسئلة السهلة التى سبقتها.
ألصق سماعة الهاتف بأذنه، ويمكنك أن تجربها بنفسك لتعرف حل السؤال الأول.
أما عن الثانى، أولًا: هو يدرس (ديكور) بمعهد سينما، أى أنها يعرف المعلومة بالبديهة، فقط استدعاها على مائدة التأمل، وتذكرها بمجرد أن وضع قدمه عند عم إبراهيم الحلاق، دهش الرجل من زبونه المنتظر، الذى نقل بصره نحو تسعين مرة بين المرآتين الأمامية والخلفية.
تجاهل شمس نظرات المصوبة من كل الاتجاهات، الزبائن الملاصقين لكتفه على الكنبة، عم ابراهيم أمامه، وحتى ابن خاله بلال الذى سبقه فى الدور، ينظر إليه فى المرآة المواجهة، دون أن يلتفت، وقد غاب وجهه الأسمر وراء سحب رغاوى كريم الحلاقة البيضاء.
من الناحية الرياضية، ستظل المرآتين يتقاذفا انعكاسه، لتكون النتيجة كما يرى بالضبط، صف من هذا الانعكاس على الناحيتين يصغر روايدًا رويدًا.
إجابة سؤاله هو (ما لا نهاية)، صحيح أن كل صف يبدو حاملًا عشرين أو ثلاثين نسخة منه، لكن الرياضيات لا تكذب، النتيجة بالفعل متوالية انعكاسات لا تحصى عددًا.
عاد شمس إلى نقل بصره ما بين السطحين المتوازيين، لطالما كان يكره المرايا، ولا يصغ فى أى مكان لشهوة النظر إلي انعكاسه خلالها، فلماذا إذن يشعر أنه مر بهذا الموقف من قبل، الحلاق، نظرات بلال، دهشته بين المرآتين، تبادلهما المتلاعب بصورته المنعكس وكأنها كرة تنس طاولة.
يكاد يقسم أن هذه اللحظة بحذافيرها مرت به من قبل، لكن أين، متى؟!
ألفة مجهولة تتردد بين الجدارين المتدثرين بسطح فضى، بل أن لها صوت مسموع بالفعل، أدنى أذنه وقد حاول قدر الامكان، ألا يفعل ذلك بحركة خفيفه غير ملحوظة، و...
"ابن العمة، أعرف أشخاص يقفون أمام المرآة، يقيسون ثيابهم أمام المرآة، ينظفون المرآة، لكن هذه أول مرة أر أحدهم يلصق أذنه بالمرآة".
ارتبك شمس، من ملاحظة ابن خاله، ومن نظرة عم ابراهيم، الذى ابتسم بدوره، وقرر ألا يفوت فرصة المشاركة فى الحفل:
- لا تنسى أن أستاذ شمس أخصائى ديكور بسم الله ما شاء الله، أى أن المرايا ضمن تخصصه، فدعه على راحته، يتفاهم مع مفردات عمله.
تناثرت من فم شمس الكلمات المتلعثمة:
- أنا..؟! أبدًا..أنا لم..
المشكلة، أنه يسمع صوت خافت بالفعل، هذا أقوى من أن يصدق، ربما يهيأ إليه، فى النهاية هو مضطر أن يتوقف، ويعتدل، كى يدفع عن نفسه وليمة السخرية القادمة على شرفه.
استقام ظهره وقد أدرك أن الإنكار سياسة خاطئة،، وقد قرر استبدالها بتعليق يختبئ وراء ستار من التهكم:
- من أدراك، لعل المرايا يمكنها التحدث، فقط لمن يسمع؟!
************
جاهد شمس فى عبور باب الشقة، ممررًا معه تلك اللوحة العريضة بين أحضانه.
ربما (المرور بالجمل من سم ( ) الخياط) أسهل من هذه المشقة.
جذبت الجلبة والدته لتطل من الداخل، مسحت بعينيها تلك الحمولة الغريبة بين يديه، واحتاجت عدة لحظات كى تفهم.
بالكاد، ميزت أطراف عارية من اللفافة عرفت منها أنها ليست لوحة، هى مرآة، بل زوج من المرايا.
- ماذا هذا يا بنى؟
أخبرها بينما هو موحول بين أثقاله، فلوت شفتيها تحدثه عما أهدى الغراب لأمه، وعن أهمية أن ينفق بعقل، خصوصًا أنه مقبل على سن الزواج.
خمس دقائق، وجاء الدور على الأب، خرست طرقات تعليق المرآتين فور دخوله غرفة فتاه.
- مرآتان، جمال أمك مقطع بعضه، حتى تحتاج مرآتين، لا واحدة.
ربع ساعة، برز رأس الأخ يبرز من وراء الباب، هم أن يقول تعليقًا متعجبًا بدوره، لولا أن بتر شمس محاولته.
صوت استنكاري من أنفه كانت كافيًا تمامًا، أتبعها بشخشطة:
- أصرت "ملطشة" هذا البيت أم ماذا؟!
أوصد الباب خلف أخيه بالمفتاح، واستغرق فى عمله الذى يجيده، وبالفعل أنهاه بشكل قياسى، أصابعه كمهندس ديكور ما كانت لتخذله قط.
وقف يتأمل المرآتين الذى احتلتا الجدارين المتقابلين، عشرات النسخ منه تبادله نفس النظرة.
طفى على السطح كرهه للمرايا طوال عمره، فأغمض عينيه، ليعطل حاسة البصر مؤقتًا، ويطلق العنان للسمع هذه المرة.
صمت تام إلا من أزيز دوران المروحة فى الأعلى.. دار حول نفسه مرة واثنين.. لا شئ أيضًا..
لا بأس، ربما خسر بضعة نقود، لكن يكفيه هذا الجو الملهم، غرفته بدت أكثر براحًا ومساحة بكثير، لطالما حدثه أصدقاءه عن هذا التأثير للمرايا، واستخدموه فى تطبيقاتهم لاعطاء انطباع بالاتساع، وعلى الضد تمامًا بالنسبة إليه، إذ كان يتجنبها بطبعه، ويخبرهم أن ذلك غباء، لا يصلح للكادرات السينمائية، حيث أن انعكاس الإضاءة يؤثر على الكاميرات.
أما الآن، فالاعتراف بالحق فضيلة، يشعر حاليًا أن هذا النفور العام كان تعسفيًا، لسبب ما، ألف وجوده بين هذا الذراعين المصقولين، وكأنما استكان فى حضنهما منذ ألف عام.
اتخذ طريقه إلى الباب، تتبعه العشرات من الانعكاسات، و..فجأة أحس أنه اصطدم بجسم غير مرئى، فتوقف.
"أبالا".
تطلع حوله، هل سمع صوت يتردد داخل ذهنه يلفظ الكلمة؟! وما الذى جعله جسده يتوقف بهذا الشكل؟!
أنصت جيدًا، تلفت مرة آخرى.
واضح أنه يتوهم، هذا ليس غريبًا على شباب معهد سينما على أى حال.
خرج ليوصد الباب خلفه.
************
" عندما تقف أمام المرآة، يشبه إلى حد كبير رقم 11، مواجهة بين نظيرين متماثلين، نلاحظ حتى أن العلاقة بين طرفى الرقم، مميزة دومًا، لو جمعت الواحد مع الواحد، يعطونك 2 أو مفهوم (الازدواج)، فى الطرح تجد نفسك أمام الصفر أو العدم، فى حين أنه الرقم الوحيد الذى يبقى صامدًا ضد الضرب أو القسمة، فيظل كما هو...".
- هيه، كفى سخفًا يا شمس، فهمنا مرادك دون حاجة للاستطراد فى كل هذه المحاضرة، خصوصًا أننى أراك تنحت علاقات رياضية لا علاقة بصلب الموضوع، أى تنظر لمجرد التنظير.
قالتها ابنة خاله مداعبة، بينما شقيقها يعتصر جبهته من السأم وفضل الاستمتساك بعروة الصمت.
فى المقابل، ألحت الكلمة السابقة كجرس فى ردهات عقل شمس، فسأل مستوثقًا:
- أحقًا ترين أننى سخيف يا إسراء؟
- أمزح معك.
- أسألك الصدق: أبالفعل تعتقدى أننى كما نعتينى؟
ظل لمدة ساعتين يطاردها بالسؤال القلق، فر بلال فى منتصفها بالطبع، وقفز فى أقرب محطة توقف بها المترو قبل أن يصاب بالفالج.
أما عن إسراء، فقد تحاملت على نفسها، حتى وصلا إلى شارع جمال الدين الأفغانى بالهرم، هنا مفترق الطرق بين معهديهما، ودعته صادقة:
- يا شمس، كف عن الاهتمام بما يراه الناس عنك، أنت بالضبط كما ترى نفسك و..
اصطدم به أحد الطلبة العابرين، التفت الاثنان، تلاقت العيون، عقّب الآخر كاشفًا عن ابتسامة معتذرة:
- المعذرة يا كابتن (شيكابالا).
يملك شمس بشرة سمراء تضخها جيناته نصف السودانية، نفس هذه الجينات الأصيلة اتنفضت فى غضب مكتوم، وهو يتطلع إلى ابتسامة محدثه، الاعتذار اتسم بطلاء من المراوغة، فلا تعرف ماهية باطنها، أدعابة هى أم السخرية؟!
فى الثانية التالية من الموقف، سبق تعجب شمس غضبه، فقد شعر أنه مر بهذا الموقف قبلًا، آه، تلك الهمسة أمام المرآة، لقد سمعها خطأ بالأمس، سمعها ناقصة.
كانت اسم لاعب النادى الأبيض السابق، لم يهتم الشاب أن يفكر بالموقف أكثر، فالغضب عاد للتجمهر خلف سد الاستغراب، وسرعان ما كسره، بالكاد تمالك شمس نفسه، فوجود قريبته معه لا يترك له رفاهية الدخول فى شجار.
و...
شاركته إسراء متابعة العابر المبتعد، ثم ربتت على كتفه، بينما تكرر جملتها التى صارت ذات مغزى أوقع:
- سأكون مملة، وأقولها لك ثانية: كف عن الاهتمام بما يراه الناس عنك، أنت بالضبط كما ترى.
حاول قريبها أن يتماسك، ويلجم شرارات التهور التى تتطاير داخله، فغير الموضوع:
- المهم، متى مقابلة الاختبار للفيلم؟
صفقت إسراء جذلًا، وكأنما ارتدت طفلة صغيرة:
- بعد الغد.
- فى انتظار أن ترفعى رأسنا إذن، يا بنت الخال،- نظرة مختلسة لساعته- أستأذنك الآن، فلدى محاضرة.
- سلام.
- سلام.
*********
نفس الموقف تكرر بحذافيره.
مرآتيه تلاعبتا به، وصوت بلا صوت يهاتفه بينهما، بموقف يشك أنه حدث فعلًا.
هذه المرة، خيل إليه أنه أمام وجه إسراء، ثم تغيرت ملامحها السمراء الفاتنة إلى ملامح رجولية يعرفها جيدًا، تشترك معها فى نفس لون البشرة.
ارتد شمس إلى الوراء فزعًا، هذا أحمد زكى، صحيح أن إسراء ممثلة جيدة، لكن ليس لدرجة أن تتحول إلى أحمد زكى.
- شمس، شمس هل تسمعنى؟!
- هه ؟!
وكأنما أفاق من حلم عميق، فكررت إسراء بأسى:
- هل يبدو ما حدث لى هامشيًا إلى ذلك الحد، لدرجة أنك لا تعيرنى أذنك حتى؟
همت بحمل حقيبتها، والنهوض من الكرسي المجاور له، إلى آخر فى الصف البعيد من عربة المترو.
استوقفها شمس بكفه:
- لا تكونى حنبلية، لكن صدقينى أو لا تصدقى، شعرت بأننى مررت بهذا الموقف قبلًا، وكنا نتبادل نفس الحديث، وجاءت سيرة أحمد زكى.
استكانت للجلوس ثانية، أو للدقة سقطت سقوطًا على المقعد.
العربة شبه فارغة حولهما، تهتز على ايقاع حركة المترو الأرجوحية.
عادت الفتاة إلى الاسترسال بمرارة دفينة:
- لا أعتقد، من ناحية ما علاقة أحمد زكى بالموضوع، ومن الناحية الأخرى، هذه أول مرة أقدم فى اختبار تمثيل لفيلم، واسمع المخرج يقول فى وجهى: قصة الفيلم لا تتضمن أن نأتى للبطل الوسيم، ببطلة من جنوب أفريقيا!
انفجرت شظايا الاحتقان الذى يسكن عروق إسراء، فاستطردت تحكى كل التفاصيل للمرة الرابعة، ربما ليس كلها تمامًا، أستحت أن تخبره بنظرات المخرج المتخلسة لمنحنيات جسدها، والتى لم تخفى عليها، واضح أنه يتحفظ على لون مرشحة لبطولة فيلمه، بينما لا مانع إطلاقًا أن ينهشه بعينيه.
صمت شمس، لا يدرى ماذا يقول فى مثل هذا الموقف، هل يواسيها بكلمات مشجعة، فمن يواسيه هو إذن، وقد شعر وكأن الصفعة اللفظية وجهت إليه ذاته؟!
وفجأة تذكر شيئًا، لقد انهار الحاجز، وأضئ الرابط التائه فى ردهات ذهنه الخلفية:
- أحمد زكى.
قلبت إسراء وجهها فى السماء، وهى تضع يدها على قلبها، عسى ألا تسد الجلطة شرايينها التاجية:
- ماله مرة أخرى.
حاول أن يهدأها شارحًا:
- فهمت لماذا تذكرته، وما علاقة هذا بموضوعنا، نفس الشئ حدث فى فيلم (الكرنك)، قال المنتج الشهير اردًا على ترشيح أحمد زكى، الذى كان فى بدايته حينها: لن نأتى بولد أسود، ليقوم بدور البطولة أمام سعاد حسنى.
استراح أخيرًا بعد أن أنهكه البحث داخل دهاليز عقله، ربما نحج هذا فى أن يبدد قليلًا من سخطه للموقف، الذى تعرضت له قريبته.
ابتسم محاولًا أن يستخدم المعلومة فى الربت على قلب قريبته:
- هل رأيتِ، هذا ليس موقف تغضبى منه، بل أثبتى من خلاله أنك على الطريق الصحيح، ومررت بنفس ما مر به العظماء.
سرقت كلمته جزء من عبوسها، وزرعت مكانه ابتسامة.
- لديك حق، "ديجافو"، الحياة ما هى إلا "ديجافو" يكرر نفسه.
- ماذا، هل هو دواء؟
مرة آخرى عادت إسراء إلى رد عنقها إلى الوراء، تنظر إلى الأعلى محاولة تمالك أعصابها.
توقف المترو، بضعة أقدام تهبط، وأخرى تصعد، وما إن عاد الهدوء نسبيًا، استرسلت إسراء:
- أنها حالة تعنى الاحساس بأنه مررت بنفس الموقف من قبل، نفس ما كنت تتحدث عنه، كما يفترض يا أخى أن هناك فيلم شهير تحدث عن الظاهرة، فيلم (دينزل واشنطون)، غير معقول ألا تكون شاهدته؟
- لا تفترضى أننى شاهدت كل ما أنتج فى تاريخ السينما، لمجرد أن دراستى ذات صلة بالمجال، لكن... حدثينى عن ذلك الديجنفو.
- اسمه الديجافو، فى الحقيقة لا أعرف المزيد سوى ما شاهدته فى الفيلم، لا تفترض لأننى أعرف كل شئ عن موضوع، لمجرد أننى أخبرتك عناوين عريضة أملتكها عنه.
صمت برهة، حتى تتيح له أن يستوعب ردها على أسلوبه بالمثل، ثم أكملت:
- ما أستطيع أن أنصحك به، أن تكف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا الموازية، صحيح أنها تمنحك بصيص من "الآتى"، لكن تراكم انعكاساتها أكبر من يتحملها عقول بشر، مع الوقت، فقد يؤدى جرعة زائدة منها إلى الهيستريا..أو انفجار شرايين مخك، و... لماذا تنظر بهذه الطريقة؟!
زاغت أنظار شمس بين الزجاج فى المترو أمامه وخلفه، دون أن يرد مباشرة.
كررت إسراء مناداته بحذر، فرد بعقل كاد يشط من الجنون:
- أحاول أن أقنع نفسى أنها خدع الأضواء، لكن ألا تلاحظين أن جسدك أصبح شفافًا، إننى أرى ما وراءه بوضوح، و-وجه نظره إلى قبضة يده، ثم بقية جزعه، فساقيه- نفس الشئ بالنسبة لجسدى؟!
كادت تجيبه ببساطة، لولا أن قاطعها بغتة، منتبهًا لشئ آخر:
- ثم كيف علمت بمسألة هواية التحديق فى المرآة مؤخرًا؟! لقد أخبرتكم بنظريتى حول الانعكاسات فقط، بينما كل ما يعرفه الجميع عنى، أننى أكرهها.
اعتصرت السمراء بغيظ، القائم التى تسند عليه كوعها، بينما وجهها يصير أبهت فأبهت:
- كنت سأخبرك، وأنت من قاطعنى، لأن اجابة السؤالين واحدة.
دنت منه حتى كادت تدغدغ أنفاسها وجهه:
- إجابتهما؛ أنك لست حقيقيًا.
بلغ الهلع مبلغه من الشاب، خصوصًا أن المشهد كله صار باهتًا شفافًَا كأنما ينعكس على سطح بحيرة.
- ولا أنا، كلانا وما حولنا صورة استباقية منعكسة داخل عقل شمس.
بشكل ما، انكشفت الحجب عن قريبها هذه اللحظة، فرأى حوله عشرات النسخ من عربات المترو نفسها، بداخلها عشرات النسخ منه وقريبته.
خرج السؤال المشدوه من أفواه جميع الـ (شمس) فى نفس اللحظة:
- لماذا أنا؟! كل الناس تقف بين مرايا موازية، عند الحلاق، وفى صالات تدريب الباليه، إلخ، فلماذا أنا؟!
أجابت عشرات الـ (إسراء) ببطء:
- ليست كل الأرواح، ذات حساسية واحدة تجاه نسخها المعكوسة.
و....
- شمس، شمس هل تسمعنى؟!
- هه ؟!
وكأنما أفاق من حلم عميق على نفس المشهد، نفس عربة المترو، نفس الألفة تجاه كل ما حوله، نفس (إسراء) تكرر بأسى:
- هل يبدو ما حدث لى هامشيًا إلى ذلك الحد، لدرجة أنك لا تعيرنى أذنك حتى؟
همت بحمل حقيبتها والنهوض، فاستوقفها بكفه:
- لا تكونى حنبلية، لكن صدقينى أو لا تصدقى، شعرت بأننى مررت بهذا الموقف قبلًا، وكنا نتبادل نفس الحديث، وجاءت سيرة (أحمد زكى)، وهناك نسخ ومرايا.
أنا أتألم أكثر منك لذلك الموقف الذى تحدثتى عنه، لكن امنحينى ثانية من فضلك، ستكون فاصلة فى أشياء كثيرة بالنسبة لى.
أسرعت يده إلى جيبه، وأخرج حاسبه اللوحى، وسطر فى مربع البحث "ديجافو"، أول نتيجة انتمت لموقع ويكبيديا، همس لنفسه:
- لا غضاضة، أثق بويكبيديا.
استغرق ثوان حتى فتحت الصفحة، لهج لسانه بدعاء خفيض ألا تخذله باقة النت التى تلفظ ميجاتها الأخيرة بالفعل، وألا تقتله زميلته ظنًا أنه يستهتر بجرحها، أها، أخيرًا فتحت الصفحة.
قفزت عيناه على السطور:
- ديقافو Déjà vu.
أول القصيدة كفر، لطالما يخرجه عن شعوره تلكم الترجمة العقيمة التى تحيل الـ (g) إلى (ق)، اصطبر شمس كى يكمل:
- كلمة فرنسية تعني "شوهد من قبل"، وتعبر عن الشعور الذي يشعر به الفرد بأنه رأى أو عاش الموقف الحاضر من قبل.
هنالك أيضا تفسير علمي آخر لظاهرة (دِيْ چاڤو) وهذا التفسير يتعلق بحاسة النظر، النظرية تقول بأن إحدى العينان تسجل الحادثة أسرع قليلًا.
- هذا هو السبب إذن؟!
خمن شمس أن الوقوف بين مرآتين، محفز معقول لأن تسبق إحدى العينين الآخرى، فلربما هى ما يسبب ذلك الشعور.
منحه التفسير راحة نسبية، فأغلق اللوح، ودسه فى جيبه، وألتفت إلى إسراء، هاله نظرة اللوم فى عينيها الحزينتين.
فسعى أن يصلح الموقف، ارتسم على وجهه جليًا مشاطرته لألمها، وبدأ حديثه:
- ماذا كنا نقول؟ أعتقد كنا نتحدث عن أنها ليست أول وآخر فرصة، ممثلين عظماء مروا بنفس الموقف، وهذا يشى بأنك على خطاهم، هل تعلمين ماذا قيل لـ (أحمد زكى)، عندما ترشح لـ.......
**********
جلس شمس فى مركز غرفته، بين المرآتين بالضبط، لم ير أى انعكاس له، لأن كلاهما كان مغطى بملاية عريضة.
" إحدى العينين تسبق الآخرى فى رصد الصورة، مما يهيئ لك أن شاهدت ما تراه من قبل"
" كف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا، صحيح أنها تمنحك بصيص من "الآتى"، لكن تراكم انعكاساتها أكبر من يتحملها عقول بشر"
" كف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا،"
"إغواء المرايا"
ابتلع شمس ريقه، لطالما سفه من أصدقاءه المدخنين، خاصة عندما يقولون له: لا نستطيع الاقلاع عنها، الآن التمس لهم العذر، المرايا التى لم يطيقها يومًا، أصبحت إدمانه حاليًا.
مهلًا، الأرجح كان يكذب على نفسه أنه لا يطيق المرايا، لأنه فى المقابل، كان يهتم –بشكل مبالغ فيه- بانعكاس شخصيته فى عيون الناس، ورأيهم فيه، فما الفارق؟!
كلها مرايا بشكل أو آخر.
أدت هذه المكاشفة مع النفس، لأن يحسم أمره سريعًا.
" فقد يؤدى جرعة زائدة منها إلى الهيستريا..أو انفجار شرايين مخك"
تجمدت قدم شمس التى كاد يقدمها لتوه، الاختيار صعب، أغرته فكرة أنه سيتذوق فقط، نظرات قليلة ثم يعود إلى تغطية المرآتين، ليس من المعقول أن يحدث له خلال هذه اللويحظات.
أتاه نداه داخلى: هذا نفس ما قاله مرضى السكر، عند أول مرة يخرقوا التعليمات الغدائية، فيسقطوا فى غيبوبة، ونفس ما قاله معاقرى الخمور، عند أول كأس منها.
- قطع لسانك، هم ضعفاء، لا يستطيعون التوقف فى اللحظة المناسبة، أما أنا فقوى.
خرس الصوت الداخلى أمام كل هذا الاغترار، بينما تلفت شمس يبحث عن أقرب المرآتين إليه، كى يعريها عن غطائها، أأأ...انتبه أنه فى المركز بالضبط، أى أنه على مسافة واحدة من الاثنين، أى حماقة؟!!
بدأ الحركة بالغريزة نحو التى عن يمينه، رويدًا رويدًا تطلعت إليه نسخته المنعكسة بنفس النظرة المجنونة، بعد قليل ستتقافز فى ذهنه عشرات الصور من المستقبل، وسيستيقظ فى كل موقف، يكتشف أنه عاصره قبلًا.
انكشفت المرآه تمامًا، فاتجه إلى الأخرى، آن للمدخن أن يلثم فم معشوقته.
*************
- شمس! ولدىىىى!
هلعت الأم، وهى ترى ابنها يفترش منتصف أرض الغرفة، والدماء تنز من أذنيه مدرارًا.
قطعت المسافة التى تفصلها طيرانًا، لتحتضنه، وتهزه بحثًا عن أى علامات للحياة على محياه.
استمر صراخها الملتاع، حتى تجمع المنزل كله، لفت نظرها لأول مرة، أن كل عين من عيني الفتى مصوبة فى اتجاه مختلف، التفت بحرطة فطرية نحو ما يتطلع إليه، فلم تجد سوى سوى صفوف من صورتها المنعكسة على الناحيتين.
(تمت)

الاثنين، 31 يوليو 2017

رسالتي قبل الأخيرة




مراجعه لغويه / الدكتور عبدالله عطية (صديق فلسطينى )
الحياة لا تمنحك الكثير من الحظ, وعلى ما يبدو أن العالم ليس مكاناً لتحقيق رغباتك وأمانيك، هذا الدرس تعلّمته مقابل حياتي.
نشأت بدار للأيتام كانت عائلتي وكانت حياتي, لم أعرف غيرهم أخواتي, كانت الحياة بين يديّ ألعب وألهو وأمرح، الحياة بدور الأيتام ليست قاسية كما بالتليفزيون، فهناك رحماء وهناك ربّ آمنّا به ويرعانا بالمقابل.
ولكن كفتاة نشأت يتيمة الأحلام ليست حقّاً من حقوقي, ولم أفكر أن أحلم كنت راضية تمام الرضى بحياتي.
مرّت الأيّام سريعة متعاقبة وكبرنا وأصبحنا نُفكّر بالحبّ, ليس فقط من يحبّنا ولكن من نحبّه أيضا.
فالرغبة بالاختيار شعور لن تفهمه مثلي, كنت أودّ الاختيار ولو مرّة بحياتي حتى لو كانت الأخيرة.
ولكن وكما أخبرتك العالم ليس مكانا لتحقيق الرغبات ومثلنا لا يملك الحلم.
ومع ذلك كل ما عليك فعله هو الإيمان بما تريدين، سيصبح حقيقة يوماً ما، الإيمان فقط وكنت أملك الكثير منه.
طبعاً ولأني فتاة قاهرية تربّيت بالجيزة فكل ما كنت أتخيّله وأسمع عنه القاهرة لم أكن أعرف الكثير عن المحافظات أو أتخيّل وجود عالَم آخر غير الجيزة.
إلى أن أتى إلينا يوماً ما مُشرف بالدار جديد يُدعى محمود من محافظة اسمها كفر الشيخ، كانت المرّة الأولى التي أسمع فيها عنها ولم أكن أعرف الكثير عمّا يُقال حولها من نكات عرفت فيما بعد، أنتم لم تُكفّروا الشيخ أنتم أطيب ناس فقط كان قليل الإيمان.
ضحكت والدموع تملأ عيوني لهند تلك الفتاة التي تعرفت عليها صدفة وكأنّه ساقني شيء ما لها لتعلمني درساً, بفراش موتها الأخير أجلس بجانب سريرها تقصّ لي حكايتها.
لما يلفت محمود نظري كثيرا، لم يكن وسيماً لم يكن مثل الهنود أو الأتراك، وكنت طموحة بأحلامي؛ لإدراكي التامّ أنّني لقيطة لن أنالها يوما ما.
ولكن لسبب مجهول لا أعرفه وقع بحبي هذا الشابّ، ولم أقاوم إعجابه، في الحقيقة هو أول من أحبّني بصدق، شعرت بذلك.
ومثلي لا تمتلك الكثير لتخاف عليه فلم يكن لي عائلة أو أخوة أو أب أو أم، لم أمتلك سوى حبّي.
ومثل هذه الأمور لا تعيش بالسرّ طويلاً سرعان ما عُرف الأمر. وفاجأني محمود بأنّه سيتزوّجني, وتركني وعاد لبلده ولأهله وعائلته ليواجههم بحبّه من فتاة مجهولة النسب.
وكما يقولون الحبّ أعمى وهو كذلك فعلاً لم يضع بالحسبان ردة فعل الآخرين لم يتوقّع كم المعارضة وحجم الرفض . فرحته أخرست لساني.
ومرّت ثلاثة شهور كدت أجنّ، وفقدت الأمل، وأدركت أنه لن يعود, جميع من في الدار قالوا ذلك، ولكن قلبي كان ينبض حبّاً وشوقاً.
وفي أحد الأيام طلبت فتاة غريبة لا أعرفها من قبلُ رؤيتي، كنتُ بحالة يُرثى لها؛ لأني اكتشفت إصابتي بسرطان الغدة الدرقية المرحلة الرابعة ومتأخّرة واستسلمت لأمري وحالي.
وجدتها صديقة محمود أرسل لي معها هاتفاً محمولاً سرّاً حيث إنّه ممنوع بدور الأيتام، وعادت روحي لي مرّة أخرى، وهاتفته ونسيت كل شيء مرضي وموتي. استيقظت أحلامي مرّة أخرى، فأحياناً يمكن العيش مع الألم كرفيق.
وحدث ما توقعته، أمه ترفضني تمام الرفض أخبرته نصاً: إنها تريد نسباً يشرف وليست فتاةَ ملاجئ الله أعلم بحالها.
أمّا والده فكان أكثر رحمة، أخبر محمود أنّ أمه هربت من بلدها بورسعيد ومن أهلها و أخواتها وجاءت معه لكفر الشيخ من أكثر من 30 سنة وتزوجنا وعشنا قصة حب صمدت عبر الزمن، لا تتخلى عن فتاتك أبداً يا محمود فالحبّ كنز والكنوز فرص.
وهنا اعتبرناها موافقة ضمنية خاصة بعد ما منعته أمه من العمل بالدار والعودة للجيزة مرة أخرى.
فقرّرت الهرب من الدار لما تسمى كفر الشيخ طبعاً؛ لكِ أن تتخيّلي بنت يتيمة لم تخرج من الدار وحدها يوما ما أو تعرف حتى الطريق لأي مكان ولا حتى الموقف!
هربت من الدار ذات نهار وسألت عن الطريق، لم يكن بيني وبين محمود ترتيب أخبرته أنّي وصلت الموقف وسأستقلّ الميكروباص لأجده بانتظاري، طارَ فرحاً بالتليفون.
وبالطريق مرت حياتي كلّها أمامي, وبالنسبة لمرضي فتوقّفت عن المأكولات البائسة للعلاج، أنا سأموت وإن كنت كذلك فيجب أن يكون بين أحضان محمود، محمود الذي ربّما يقف قلبه إذا علم بالأمر.
وصلت لكفر الشيخ وجدته بانتظاري، ساعدنا الأصدقاء واستضافونني عندهم, وكانت هي حياتي التي عشتها عشرة أيّام حرّة، حرّة بقراراتي وبحياتي وباختياراتي, لم أندم كان قراراً صائباً وتطلب مني شجاعة كبيرة لإخباره بمرضي وأخبرته.
فأسرع بترتيبات الزواج أستأجرنا شقة واشترى والده لنا العفش كاملا حباً وساعدنا الأصدقاء، كم قابلت بهذا البلد كرماء!
وتزوّجنا خلال أسبوع وكأنه حلم سريع، ومع حملي زاد مرضي وجنّ جنوني، الحياة ما زالت أمامي وما زال لدي الكثير لأفعله ولكنها مشيئة القدر.
الأطبّاء أكّدوا أنّي لن أعيش والجنين أيضاً, أصبحت ممتنّة للأيام السعيدة التي عشتها مع محمود.
وذات صباح وكنت بشهري التاسع وصلنا خبر وفاة محمود بحادث سير, أغميَ عليَّ حينها وتمّ نقلي للمشفى ووضعتُ ابنتنا أسيل كما اتفقنا على تسميتها، ودُفن محمود ودُفن قلبي معه.
بعد مرور أسبوع من الولادة توفيت وأسيل بخير خالية من السرطان وهي الآن تعيش مع جدّها وجدّتها عمرها ستّ سنوات الآن.
أكثر ما كانت تخشاه هند أن تُنسى وحبيبها كلّنا نتمنى ألّا نُنسى بشكل أو بآخر.
أمّا عن رسالتها الأخيرة في أسبوع وفاتها فهي (أوصيكم بابنتي خيراً، علّموها الحبّ، ذكّروها أنّه كان لها أبوان مُحبّان قليلا الحظّ).

الجمعة، 23 يونيو 2017

الحب السائل





            يصحبنا باومان في كتاب الحب السائل من النظرية الاجتماعية، التي سبق أن قدّمها في كتب السوائل، إلى تحليل خيارات الفرد الشخصية -العاطفية والجنسية- في زمن الحداثة السائلة... حيث تخلّت الحياة عن صلابة جذورها.
يرصد زيجمونت باومان صيغ البحث عن الفائدة والخيارات الرشيدة وكيف دُمِّرت ما تتّسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية -تلقائية-عاطفية، حيث إن المدى القصير اللذين تقوم عليهما حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث يقومان بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات.
فيما يرى بعض الأفراد أن كثرة الدخول في عمليات متعددة من الحب والعلاقات العاطفية، يجعلهم يعرفون أكثر عن خفايا الحب وأسراره المغلقة لكن باومان يؤكد أن ذلك الاعتقاد ما هو إلا نوع من أنواع التضليل والوهم، لأن الخبرة التي يحوزها هؤلاء الأفراد من جراء علاقاتهم المتكررة، ما هي إلا خبرة في "الإنهاء السريع للعلاقات والبدء من جديد" وليست خبرة في الحب ذاته.
إن العلاقات العابرة في ضوء الحداثة السائلة، سعادة حالمة بلا روابط، سعادة لا تخشى الآثار الجانبية وتتناسى تبعاتها، سعادة تخاطب المستهلك قائلة: "إن لم يحقق لك المنتج الرضا الكامل، يمكنك رده واستعادة نقودك كاملة"، إنها أكمل تجسد للحرية من منظور الممارسة السائدة للمجتمع الاستهلاكي.
ويضيف: أنه في ظلّ تنامي السيولة في كل شيء، وتحوّل «المجتمع» إلى مجرد «تجمّع بشري»، تحوّل هذا الإنسان من «وضوح العلاقات الاجتماعية» إلى «غموض الصلات العابرة».
وفي ظل هذا تنمو العلاقات الافتراضية وهي على عكس العلاقات الحقيقية، حيث يمكن خوض العلاقات الافتراضية بسهولة كما يمكن التنصل منها بسهولة. تبدو العلاقات الافتراضية ذكية ونظيفة، بالمقارنة مع العلاقات الحقيقية الثقيلة، التي تتحرك ببطء ويتطلب الخروج منها الكثير من الجهد كما أنها لا تخمد بسهولة.
لقد كبرت العلاقات على الانترنت عبر مواقع المواعدة على حساب الأشخاص، الأماكن التي قد تجمعهم بشريكهم والأعمدة التي تتحدث عن الحب في المجلات والصحف، لكن تبقى ميزة العلاقات الافتراضية كما وصفها أحدهم: “يمكنك دائماً أن تضغط زر الحذف (Delete).
خلال هذه العلاقات الافتراضية يكون التواصل عبر الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي هو الحالة النموذجية للعصر السائل الذي نعيشه، فالعلاقة مؤقتة وليست مبنية على الالتزام والاستمرار. وبنص المؤلف: الاتصالات ضحلة ومختصرة للغاية بحيث يستعصي تحويلها إلى روابط، فهي اتصالات آنية تركز على موضوع الاتصال، ولا تتطرق إلى موضوعات أخرى ولا تأخذ الشركاء بعيدا من الوقت والموضوع الذى تستغرقه كتابة الرسالة وقراءتها، على العكس مما ترتكبه العلاقات الإنسانية المعروفة بنهمها وحماستها من أخطاء وخطايا».
وبشكل عام فإن كتاب الحب السائل يتناول العلاقات البشرية في ظل الاستهلاك وتحولات ما بعد الحداثة، والتي يسميها باومان بالحداثة السائلة، حيث تحول المجتمع في أواخر القرن العشرين من مجتمع منتج إلى مجتمع مستهلك. هذا التحول -بزعم بومان ـ أدى لتعطيل الحماية من أجل الاستمتاع بأقصى درجات الحرية، حرية الاستهلاك، حرية الاستمتاع بالحياة.
الحب والموت
يبدأ باومان كتابه بذكر السمات التي ينفرد بها كل من الحب والموت، فهو يؤكد أن الإثنين يختلفان بشكل كامل وتام عن باقي الأفعال البشرية الأخرى المتعارف عليها.
فإذا كانت طبيعة الأفعال البشرية تقتضي وجود "صلة قرابة" أو وجود "علاقة سببية" ما بين مقدمات الحدث والحدث نفسه، فإنه على العكس من ذلك، لا توجد أي علاقة ما بين الحب والموت وما بين مقدماتهما، وذلك أنه لا يوجد أي تاريخ سابق قد يكون مهيأ لهما، بل أن كلاً واحداً منهما "يمثل حدثاً منفصلاً لا يرتبط بأي حال من الأحوال بأي أحداث أخرى مشابهة، إلا في كتابات استرجاعية تطمح إلى تحديد الصلات، أي اختلاقها، وفهم ما يستعصي على الفهم".
وهكذا يقر المؤلف بأنه لا يمكن أبداً أن نتعلم الحب أو الموت، لأن كليهما حدث مفاجئ يبرز من العدم.
ولهذا فإن الحب والموت تحديداً يتخذان موقعاً فريداً ومميزاً في قائمة الأفعال التي يخشاها الإنسان ويخافها، ذلك أن الانسان قد تعود أن يرسم سلسلة سببية معقولة لكل ما حدث من قبل في الماضي، بحيث يستطيع عن طريقها أن يتوقع ما يمكن أن يحدث في المستقبل. والسبب الرئيس في ذلك، أن الإانسان يحتاج إلى الراحة الروحية التي تنتابه، عندما يتأكد من انتظام العالم وبإمكانية التنبؤ بالأحداث المستقبلية.
بتلك المقدمة الطويلة –نوعاً ما- يفتتح المؤلف كتابه عن "الحب في زمن الحداثة السائلة"، حيث حاول زيغموند باومان كعادته في باقي كتبه، أن يؤكد على صعوبة موضوع كتابه، وأن يبيّن ما يتعلق بدراسته من صعوبات وإشكاليات.

الحب الرومانسي والحب الاستهلاكي
يحاول باومان أن يختار تعريفاً محدداً لمفهوم الحب، فيشير إلى كون الحب من المفاهيم التي تحظى بتعريفات متباينة ومختلفة، فأهل زمننا يميلون إلى إطلاق كلمة الحب على الكثير من التجارب التي مروا بها في حياتهم، بعكس أسلافهم الذين كانوا يعيشون في العهود القديمة، أولئك الذين كانوا يرون في الحب حدثاً رومانسياً إلى أقصى درجة، حينما كان الحبيب يعاهد حبيبته قائلاً "تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت".
يرى باومان أن السبب الرئيس في نهاية صلاحية ذلك النوع من الحب الرومانسي، هو "التفكيك الجذري لأبنية القرابة التي كانت تدعمه، وكان يستمد منها قوته وحيويته وأهميته الخاصة".
يرى بعض الأفراد أن كثرة الدخول في عمليات متعددة من الحب والعلاقات العاطفية، يجعلهم يعرفون أكثر عن خفايا الحب وأسراره المغلقة، ولكن باومان هنا، يؤكد أن ذلك الاعتقاد ما هو إلا نوع من أنواع التضليل والوهم، لأن الخبرة التي يحوذها هؤلاء الأفراد من جراء علاقاتهم المتكررة، ما هي إلا خبرة في "الإنهاء السريع للعلاقات والبدء من جديد" وليست خبرة في الحب ذاته.
ويستشهد باومان على ذلك، بما ذكره المفكر الألماني إريك فروم عما سماه بـ"خصال الحب"، ففروم اعتقد بأن هناك عدداً من الخصال اللازمة للحب، من تلك الخصال "التواضع والشجاعة والإيمان والانضباط"، وتلك الخصال وحدها هي التي بإمكانها أن تصنع "حباً حقيقياً".
ويلفت باومان نظر قرائه إلى أن مشكلة عصرنا الحقيقية مع الحب، هو أنه لا يوجد مجال كافٍ لتحقق تلك الخصال على أرض الواقع. فبحسب باومان "في ثقافة استهلاكية مثل ثقافتنا، تفضّل المنتجات الجاهزة للاستخدام الفوري، والاستعمال السريع، والإشباع اللحظي، والنتائج التي لا تحتاج إلى جهد طويل، والوصفات السريعة المضمونة"، ومن هنا فإن الوعد "بتعلّم فن الحب" في عصرنا الحاضر ما هو إلا وعد "بتحويل تجربة الحب إلى ما يشبه السلع الأخرى".

الرغبة والحب
يرى باومان أن الرغبة والحب يتشابهان في الكثير من النواحي، وفي الوقت ذاته يختلفان في نواحٍ أخرى، فهما بحسب تعبير باومان "يولدان توأماً، لكن لا يمكن أن يكونا توأماً متماثلاً".
فالرغبة هي اشتهاء الاستهلاك، وهي اشتهاء للتدمير، والاستحواذ والإهانة والاذلال، ومن ثم فالرغبة تدفع إلى تجريد الأخرية من أخريتها كمرحلة أولى، قبل أن يتم اعتصارها إادخالها إلى مرحلة الموت والفناء. ومن هنا فإن المؤلف يؤكد على أن "الرغبة منذ ميلادها مصابة بعدوى اشتهاء الموت".
أما الحب فهو على العكس التام مما سبق، فإنه لا يعتمد على مركزية الذات وهامشية الآخر، بل إنه قوة تتمدد وتتجاوز وتبسط يدها لما هو خارجها، بحيث "تتمدد الذات عبر أخرية الذات"، ومن هنا فإن باومان يقر بأنه إذا كانت الرغبة تبتغي الاستهلاك، فإن الحب يبتغي التملك".
يقر باومان بأن الحب في عصر الحداثة السائلة، أصبح نوعاً من الاستثمار، فالارتباط بعلاقة حب إنما هو سلاح ذو حدين، فالاحتفاظ بالحب (الاستثمار) أو التفريط فيه مسألة تخضع لحسابات وقرارات المحب، ولكن في نفس الوقت تتأثر بقرارات ورغبات المحبوب الذي يعتبر شريكاً أساسياً في ذلك الاستثمار. ومن هنا فإن ذلك الاستثمار يُسبّب الكثير من القلق والتوتر في عصرنا الحالي الاستهلاكي النزعة، لأنه يحمل في داخله جميع السمات والصفات التي تثير مخاوف وهلع التجار والزبائن.
ويشير باومان إلى بعض أنماط الحب السائدة في المجتمعات الغربية، ومن أهم تلك الأنماط، ما يطلق عليه "علاقات الجيب العلوي"، وهي تلك العلاقات التي تسمّى بذلك الإسم لأن المرء يحتفظ بها في جيبه بحيث يمكنه إخراجها بسهولة متى أراد ذلك.
وتتميّز تلك العلاقات بأنها "عذبة وعابرة"، حيث تستمد عذوبتها في وعي الشريكين/ الحبيبين، من كونهما ليسا مضطرين لبذل الجهد طوال الوقت في سبيل الحفاظ على أواصر العلاقة.
ومن هنا فإن باومان، يرى في علاقات الجيب العلوي "التجسيد الحقيقي للاستهلاك اللحظي، والتخلّص الفوري من النفايات".
إذن يمكن أن نشبّه ذلك النمط من العلاقات، بأنها "تقع على الأكتاف مثل عباءة خفيفة حتى يمكن التخلّص منها بسهولة في أي لحظة... وينبغي للمرء أن يحذر من تحوّلها، خلسةً وسهواً، إلى غلاف فولاذي يحيط به".
ومن أهم الشواهد التي يحتج بها باومان، في سبيل إثباته كون ذلك النوع من العلاقات قد أضحى النمط السائد والشائع في المجتمعات الغربية، هو ذلك النجاح الكبير الذي صادفته عدد من المسلسلات الاجتماعية الأميركية الشهيرة، مثل مسلسل "إيست أندرز" على سبيل المثال. حيث يرى باومان أن سر نجاح ذلك المسلسل يكمن في كون أغلب العلاقات العاطفية التي دخلت فيها شخصيات وأبطال المسلسل، هي في حقيقة الأمر من علاقات "الجيب العلوي"، تلك التي يعرفها المشاهدون من خلال إحباطاتهم الحياتية الخاصة أو عبر ما يصل إلى مسامعهم عن قصص فشل علاقات أصدقائهم ومعارفهم.
من هنا يفسّر باومان، السبب الذي قلّل من جاذبية الزواج كرابطة اجتماعية قوية في المجتمعات الغربية، بحيث حلّ محلّه نوع أخر من الارتباط السريع القصير المدى، فـ"المعاشرة الجنسية" من دون زواج تكتسب جاذبية أضحت مفقودة في روابط المصاهرة والنسب التقليدية، وذلك لأن "مقاصدها متواضعة، ولا تؤخذ فيها المواثيق ولا العهود، وإذا أخذت، فهي ليست مقدسة، ولا تفرض قيوداً ولا أغلالاً، ولا تتطلب إشهاراً ولا كاهناً يباركها، فالمرء لا يطلب من هذه العلاقة إلا القليل، ولا يحصل منها إلا على القليل".
وهنا يلتفت باومان إلى أن انتشار تلك العلاقات، قد أدى بالتبعية إلى ظهور مشكلة اجتماعية كبرى، ألا وهي وضع صلات القرابة في مأزق، فالمصاهرة والنسب التقليديان هما الشبكات الطبيعية التي تؤسس لصلات القرابة في المجتمع، وانحسار دورهما وفاعليتهما في عصر الحداثة السائلة، أدى إلى أن "القرابة" قد صار يعتريها الضعف والوهن، كما أن حدودها قد أصبحت ضبابية وخلافية.
من هنا فإن العلاقات القائمة على مركزية "الهوية المشتركة"، قد تم استبدالها بمركزية أخرى أكثر نفعاً في عصر الحداثة السائلة، ألا وهي مركزية "المصالح المشتركة"، ويعلل باومان ذلك بأن الهوية، بما فيها من عناصر الإخاء والقرابة، قد فقدت ما لها من قوة في هذا العصر، وتحولت في معظم الأحيان إلى سلاسل من الروابط الهشة الضعيفة.
ولعل هذا السبب هو الذي دفع "بندكت أندرسون" في كتابه "الجماعات المتخيلة"، إلى البحث في حقيقة تلك العوامل التي قد تفسّر التماهي الذاتي مع فئة كبيرة من الغرباء المجهولين، الذين يعتقد المرء أنه يشاركهم شيئاً بالغ الأهمية، بالدرجة التي قد تجعله يتحدث عنهم باستخدام الضمير (نحن) بدلاً من أن يستخدم (أنا) و(هم).
بعد ذلك يشير باومان إلى أحد أهم تجلّيات عصر الحداثة السائلة، وعن الكيفية التي يؤثّر بها هذا التجلّي على علاقات الحب ما بين البشر وبعضهم البعض، ويقصد بذلك التجلي "الاتصال الافتراضي"، حيث يفرّق باومان بدايةً ما بين نوعين من الاتصال، النوع الأول هو ما يسمّيه الاتصال الطوبوغرافي، ويقصد به الأنماط المعروفة من عمليات التواصل بين البشر، وهي تلك التي كانت مستخدمة على مر العصور.
أما النوع الثاني، فهو الاتصال الافتراضي، ويقصد به أنماط وطرق التواصل الحديثة التي لم تظهر إلا كنتيجة لتطور تقنيات علمية في عصرنا الحاضر.
يؤكد باومان على أن هناك الكثير من الاختلافات ما بين النوعين، ففي الاتصال الافتراضي على سبيل المثال، يكون الهدف الأهم للتواصل هو التواصل فقط لا غير، ويضرب على ذلك مثلاً بما يحدث في عمليات (الدردشة) عبر الانترنت، حيث أدت تلك العملية إلى خلق عدد من "الزملاء المفضلين" لكل فرد، هؤلاء الزملاء يأتون ويذهبون، ولكن دائماً ما يوجد عدد منهم على الخط ويتلهفون لتبادل الرسائل مع غيرهم.
محتوى الرسائل في حد ذاته ليس هو الهدف الأسمى من العلاقة، ولكن تبادل الرسائل هو الهدف والمغذى والغاية.
وتدعم شركات الاتصالات ومواقع الانترنت من تبادلية تلك الرسائل لأسباب تجارية استهلاكية بحتة، فاستمرار تبادل تلك الرسائل هو نجاح لتلك الشركات، بينما الكف عن تبادلها والدخول في حالة من "الصمت الالكتروني" ليس أكثر من دليل على الفشل والتوقف عن الربح. ومن هنا فإن تلك الشركات قد حاولت –قدر جهدها- أن يُزيد المستهلكون من حجم تبادلهم للرسائل، فتم وضع إشارات مقتضبة ورموز معيّنة لاستخدامها بديلاً عن الكتابة العادية المرهقة التي تأخذ وقتاً أطول. وأدى ذلك إلى أن المتواصل/ المستهلك قد صار في وسعه أن يوصل ما يحس به من انفعال وشعور بأقصر الطرق وأسهلها.
المجتمع الحداثي إذن، دائماً ما يحاول أن يجعلك كزبون على اتصال دائم بالشبكة، وهو ما يلفت المؤلف قارئ الكتاب إليه، أنه دائماً ما يجد نفسه مشغولاً بهاتفه النقال، دائماً وطوال الوقت، فهو إما ينتظر مكالمة أو يقوم بإرسال رسالة ما.
حتى أثناء ممارستك لرياضة الجري الصباحية، ستجد نفسك مشغولاً بـ(الشبكة)، فقد حرصت شركات الملابس الرياضية على أن تصمم زيك الرياضي بشكل يراعي وضع الهاتف النقال، بحيث تظل متصلاً بالشبكة في وقت ممارستك للرياضة اليومية.
يوضح باومان الأثر السلبي الذي خلفته التقنيات الحديثة في العلاقات الأسرية التي من المفترض أن يمسك الحب بزمامها، فيقول إنه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، كان من الممكن أن تلاحظ إحدى الأسر المتواجدة في أحد المطاعم، ستجد أن الأب يتابع عمله بواسطة هاتفه النقال، بينما تجد الأم تهتم بطفليها. أما الآن فالوضع اختلف بشكل كامل، فقد صار جميع أفراد الأسرة يمسكون بهواتفهم النقالة، وكل منهم مشغول باهتمامات تختلف عن اهتمامات مرافقيه، وإن كانت جميع تلك الاهتمامات تتعلق بمحاولة التواجد على (الشبكة).
يعتقد باومان أن الإنجاز الأكبر (للقرب الافتراضي) الذي تم خلقه بواسطة التقنيات الحديثة، يكمن في "الفصل بين التواصل والعلاقة، فعلى العكس من القرب الطوبوغرافي التقليدي، لا يتطلب القرب الافتراضي تأسيساً مسبقاً للروابط ولا ينجم عنه بالضرورة تأسيساً لها".
أصبح القرب الافتراضي أكثر سهولة وأكثر جاذبية، خصوصاً وهو يُعطي مزايا التواري عن الأنظار والمشاركة بشكل مرن وسلس، وهو الأمر الذي يجعل من القرب الطوبوغرافي قد أضحى يمثّل عبئاً ثقيلاً على نفوس الأفراد.
يضرب باومان مثالاً على ما يقصده، بالمسافرين في القطار، فلما كانت الرحلة تستغرق زمناً حتى الوصول إلى المحطة المقصودة، فإن أغلبية الركاب يفضلون قضاء هذا الوقت في إجراء بعض المحادثات الهاتفية أو ممارسة أي نوع من التواصل الافتراضي على شبكة الانترنت، بينما يُعرض هؤلاء عن فتح باب الحديث مع جيرانهم في عربة القطار نفسه، وهو ما يراه باومان شاهداً قوياً على جاذبية "التواصل الافتراضي" في عصر الحداثة السائلة.
ويلاحظ باومان أن هناك علاقة طردية تربط ما بين زيادة تقنيات التواصل الافتراضي من جهة وإقبال الأفراد عليها من جهة أخرى، فكلما سهّلت التقنيات الحديثة من أساليب الدخول على الشبكة، كلما مال المستهلكون إلى استخدامها، وفي الوقت ذاته ابتعدوا عن "التواصل الطوبوغرافي" لكونه يحتاج إلى مهارات شخصية مجهدة وصعبة، مثل مهارات "الاختلاط الاجتماعي" على سبيل المثال.
وربما كان هذا يفسّر الذي جعل الفيسبوك وتويتر أهم في العصر الحالي من صالات الديسكو وأندية العزاب، برغم أن الأخيرين كانا حتى فترة قريبة من أهم الوسائط الاجتماعية لشرائح كبيرة من الشباب في المجتمعات الغربية.
ففي الوقت الذي يحتاج فيه التعايش والتأقلم في تلك الأماكن، إلى مهارات لكسب صداقة الآخر والوصول إلى حالة من حالات التفاهم والانسجام معه، فإن الدخول على الشبكة بسيط جداً، ولن يعاني الشاب في سبيل التخلّص من تبعات علاقة فاشلة فيه. فكما قال أحد الشباب في مقابلة شخصية مع باومان "يمكنك دوماً الضغط على كلمة إحذف، وما أسهل في العالم من عدم الرد على رسالة إلكترونية".
فإنهاء التعارف في تلك الحالة، سيتم من دون ضجيج ومن دون صخب ومن دون ندم، والأهم من ذلك كله أنه سيتم من دون معاناة أو تكلفة مادية أو نفسية، وهو الأمر الذي يبحث عنه المستهلك دوماً في عصر الحداثة السائلة.

الحب والجنس
لا يشكّل الجنس حدثاً عارضاً، فالرغبة الجنسية هي إحدى أهم الرغبات والميول والنزعات البشرية الطبيعية، ولكن مع ذلك يؤكد المؤلف أن الطابع الاجتماعي للجنس يتفوق بوضوح على جميع ما سبق.
ويلاحظ باومان أن هناك الكثير من العوامل التي ظهرت في عصر الحداثة السائلة، والتي من شأنها أن تنافس الجنس بقوة في وظائفه الرئيسة التي تميّز بها منذ بدء الخليقة، أهم تلك العوامل هو (الطب).
فالطب بعد الطفرة العلمية الهائلة التي تحققت في هذا العصر، وبعد أن تماشى بدوره مع روح هذا العصر الاستهلاكية المضمون، قد صار وشيكاً من أن يقدم حلولاً سحرية براقة بديلة عن الجنس لتحقق نفس نتائجه الاجتماعية. يقول باومان أنه عما قريب سوف يصبح من المتاح أن يتم "اختيار طفل من كتالوج لمتبرعين رائعين مثلما اعتاد المستهلكون المعاصرون شراء البضائع واستلامها".
يشرح باومان أهمية الجنس في الروابط الاجتماعية، بقوله إنه في الماضي السحيق، كان يتم توزيع الأعمال على جميع أفراد الأسرة، فكان الأطفال يعملون لزيادة ثروة ومدخرات الأسرة، فلما كان الأطفال منتجين، كان من الطبيعي أن يحاول الأب أن يزيد من عدد الأطفال لكون هذا يعني بالتبعية تحسين مستوى الأسرة كلها، ومن البديهي أن نلاحظ أن الطريق الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف، كان ممارسة الجنس.
كما أن هناك شقاً نفسياً آخر مهماً في الموضوع، فباومان يؤكد أن إنجاب الأبناء في السابق، كان يحمل مدلولات نفسية عميقة، تشير إلى محاولة الإنسان الفاني إدراك الخلود وبناء جسور نحو الأبدية.
أما في عصر الحداثة السائلة، فقد تغير الوضع كثيراً، فأصبح العمر المتوقع لأي فرد في الأسرة أكبر بكثير من العمر المتوقع لبقاء "رابطة" الأسرة ككل. كما أن إنجاب طفل في هذا العصر قد أضحى عائقاً في سبيل التخلّص من مشروع استثماري معرض للفشل أي الحب، والبدء في مشروع آخر بديل مشابه.
وفي الوقت ذاته فقد أصبحت كلفة رعاية الطفل عبئاً كبيراً على أي أسرة، فبدلاً من أن يكون الطفل أداة استثمارية منتجة تجلب المال، فقد أصبح منفذاً لإنفاق الثروة والمدخرات، بشكل يفوق أي مشروع استهلاكي آخر.
من هنا نجد أنه قد حدث انفصال ملحوظ وقطيعة تامة وكاملة ما بين الجنس ووظيفة التكاثر، وهو ما يعزوه باومان بالأساس لظهور النمط الحداثي الاستهلاكي.

أحبب جارك كما تحب نفسك
يطرح باومان في كتابه سؤالاً صادماً يتعلق بالسبب والمبرر الذي قد يدفع إنسان العالم المعاصر إلى الالتزام بالتعاليم الدينية التي تأمر وتحض على الحرص على أن نحب جيراننا كما نحب أنفسنا.
يؤكد باومان من خلال طرح هذا التساؤل، أن ذلك الحب لن يتحقق إلا بعد أن يتأكد الفرد من احترام وحب جيرانه له أولاً، فالحب هنا لا يمكن أن ننظر له إلى كونه قيمة مجردة، بل إنه في الحقيقة مصلحة ومنفعة تبادلية، ولا يمكن أن يتحول هذا الأمر الديني الأخلاقي إلى واقع عملي وملموس إلا بعد أن يأخذ شكله التبادلي.
من هنا يصل الكاتب إلى نقطة مهمة، ألا وهي أن ضرورة حدوث "تبادلية أخلاقية"، تستوجب في الوقت ذاته حدوث حالة من "المساواة".
فكما يقول باومان إن المساواة في الاحترام والحب هي المفتاح المناسب لفتح أبواب العلاقات الإنسانية بين الناس وبعضهم البعض، كما أنها – أي المساواة-هي "أصل الأديان كلها".
ومع الولوج في عصر الحداثة السائلة، يميّز باومان شعوراً آخر موازياً للشعور بالمساواة، وهو ما يسمّيه بـ(الروسنتيما) ressentiment)).
والروسنتيما هي كلمة فرنسية بمعنى الاستياء، وقد أعتاد الكثير من الفلاسفة على استخدامها للإشارة إلى معاناة الأفراد الأقل شأناً من هيمنة ونجاح وتسلّط الأفراد الأعلى شأناً، ولكن باومان يستخدمها بمعنى مختلف في سياق توصيف ظواهر الحداثة السائلة، فهي -بحسب ما أورده باومان-"شعور أقرب للظهور ما بين المتساويين"، وهو يؤدي إلى حدوث حالة من التنافس المحموم بين الأفراد وبين بعضهم البعض للحصول على أنصبة متشابهة بهدف "رفع أقدارهم والحط من أقدار الذين يشبهونهم".
الروسنتيما إذن تعارض مبدأ حب الجار الذي نادت به الأديان والمنظومات الأخلاقية القديمة، وتزداد حدتها بشكل كبير مع تنامي ظاهرة العولمة في العصر الحاضر.
فالغرباء على وجه الخصوص، يعانون أكثر من غيرهم بفعل شعور الغربيين بالروسنتيما، فاللاجئون والمنفيون والمساكين الذين يطرقون أبواب الغربيين يذكرونهم دائماً "كم هو أمننا غير آمن، كم هي راحتنا هزيلة وهشة، كم هي ضعيفة حماية سلامنا وهدوئنا"، يقول باومان.
إذن، يوجد دائماً خوف من المجهول ومن المستقبل، ومن هذا الخوف الأبدي ظهرت مخاوف مستمرة من الأجانب ومن عدم الاستقرار.
يلاحظ باومان أنه في المراحل الأشد تنافساً في المجتمعات القابعة تحت سطوة وتأثير عصر الحداثة السائلة، فإنه دائماً ما يتم إبراز ورقة "الخوف من الآخر" بغية الوصول إلى السلطة.
من أهم الأمثلة على ذلك، أنه في المراحل التمهيدية للمنافسة بين جاك شيراك وليونيل جوسبان على رئاسة فرنسا، تدنت المنافسة السياسية إلى مستوى متدنٍ، بحيث أضحت مزاداً علنياً يتنافس فيه كلا المرشحين على الدعم الانتخابي، بواسطة التلويح بفرض إجراءات أكثر صرامة وقسوة ضد المجرمين والمهاجرين، ولا سيما ضد "المهاجرين الذين يولّدون الجريمة، والجريمة التي يولّدها المهاجرون".

هل من فرصة للحب في المستقبل؟
يناقش باومان هذا السؤال، عن طريق مناقشة فكرة "التعايش السلمي بين البشر" ومفهوم "المواطنة العالمية"، حيث يؤكد أنه في العقود الماضية كان هناك ثمة تأكيد على أن القارة الأوروبية هي مركز العالم وقبلته، بحيث كان النمط الأوروبي في الحياة هو النمط الوحيد المتقبل على كونه نمطاً حضارياً. ولكن مع بدء عصر الحداثة السائلة، ظهرت الولايات المتحدة الأميركية في الصورة، وسحبت البساط من تحت أقدام الدول الأوروبية العظمى، لتحدد واشنطن المعايير والقيم الجديدة في النظام الكوكبي الجديد.
وبذلك أصبحت أميركا هي مركز العالم، بينما اكتفت أوروبا بلعب دور المشاهد المتابع الذي لا يبالي بما يدور حوله من أحداث.
ويعقد باومان، مقارنة بين "الإمبراطورية الأميركية" الحالية ومثيلتها الرومانية الغربية الغابرة، حيث يؤكد أن كل من القوتين قد حاولت أن تفرض سطوتها وهيمنتها تحت شعار يدعو إلى السلام.
فكما أعلنت روما حالة "السلم الروماني"، فإن أميركا ترفع الآن شعار السلم الأميركي، ويؤكد باومان أن الهيمنة الأميركية المتشحة بالثوب الأخلاقي، مصيرها إلى الزوال والعدم، فهي لن تستطيع أن تبقى صامدة أمام التحديات المواجهة لها، والتي يُشكل الإرهاب الجزء الأعظم منها.
فأميركا التي وصلت حالياً إلى منتهى قوتها، لم تستطع أن تضع حداً للإرهاب الموجّه لها، بل إن عدد العمليات الإرهابية التي توجّه ضد المصالح الأميركية في تزايد واطراد مستمرين.
أما أوروبا فهي تواجه عدداً من المشكلات الخطيرة التي تقف أمام ريادتها الحضارية المستقبلية، فهي منشغلة بتحقيق وإقرار الوحدة ما بين دولها وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي للدول المتأزمة فيها من جهة، كما أنها تسعى إلى اللحد من موجات الهجرة غير الشرعية الأتية من الجنوب من جهة أخرى
من هو زيغموند باومان؟
ولد باومان في بولندا عام 1925م، ودرس علم الاجتماع في مرحلة دراسته الجامعية، وعمل بعد تخرجه أستاذاً جامعياً في هذا التخصص، وفي عام 1971م خرج مطروداً من بلده، بعد أن عارض النظام الشيوعي القائم بها، واستقر في إنكلترا، حيث عمل أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة ليدز.
وقد عُرف عن باومان اهتمامه وتخصصه في دراسات الحداثة والظواهر والتجلّيات المرتبطة بها في العالم المعاصر عموماً، وفي المجتمعات الغربية على وجه الخصوص.
يقسّم باومان الحداثة إلى طورين متمايزين، الطور الأول، وهو ما يسمّيه باسم (الحداثة الصلبة) وهي تلك التي تم تدشينها في عصر التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر، وتمخضت عنها مفاهيم كبرى مثل (الدولة الحديثة-المجتمع-الثقافة).
أما الطور الثاني، فهو ما يسمّيه باسم (الحداثة السائلة)، وهي التي برزت على السطح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن العشرين. ويسمّي الكثير من الباحثين تلك المرحلة باسم (ما بعد الحداثة). أما باومان فقد أعتاد أن يصفها بالحداثة السائلة، بسبب اعتقاده بان صلابة المرحلة السابقة قد ذابت وتفككت بفعل الكثير من العوامل والعناصر المتداخلة، ما نشأ عنه حدوث "تداخل في الحدود وتراخت السمات وازدادت ضبابية وتشابهت".
وقد أولى باومان في أبحاثه المتعددة اهتماماً كبيراً بتوصيف سمات عصر الحداثة السائلة، فكانت من أهم الكتب التي نشرها والتي تعلقت بذلك الموضوع "الحداثة السائلة-الحب السائل-الأخلاق السائلة".