الأربعاء، 20 يناير 2016

سَـــرَقَـنِـي بِـعَــْينَيْهِ 1


لم أَعْتَدْ تضييعَ الوقت في حياتي، فكلُّ ثانيةٍ عندي لها قيمةٌ، تعوَّدْتُ الذهاب إلى النادِي لمُمارَسة الرياضة التي أُحِبُّها كثيرًا وهي التِّنْسُ، كُنْتُ لا أَمِيلُ لِصَداقات النادي كثيرًا, ولكنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أنْ أَقْضِيَ وقتي في أشياءَ مُفيدَةٍ دائمًا, إلّا أنَّ المُجتمَعَ كانَ يَرى أنَّ البنت يجبُ ألّا تُمارِسَ الرياضة؛ خوفًا على أُنُوثَتِها، كمْ كُنْتُ أتمنّى ممارسة رياضة مثل: الكاراتيه أو الكونغفو، ولكنَّ تلك الأفكار البالِيةَ فُرِضَتْ عليّ حتّى ممارسة رياضة التنس, كونِي فتاةً حَرَمَنِي مِن الكثير وفَرَضَ عليَّ أيضًا الكثير… على أيِّ حالٍ كانَ هناكَ الكثير مِن المُعجَبينَ بالنّادي, ولكنِّي لم أَكُنْ لأُعِيرَ أَيًّا منهم الاهتمام، وسرعان ما بَدَأَ العامُ الدراسيّ وَبَدَأْتُ أوَّلَ سنةٍ لي في كليَّةِ الآداب، قِسم علم النَّفْس.
انْشَغَلْتُ بالدراسة كثيرًا، فقد كانَتِ الموادُّ شيِّقَةً للغاية وبمَثابة حُلْمٍ يتحقَّقُ، فأنا أعشَقُ التعمُّقَ في خبايا النَّفْسِ وأسرارِها. قلَّ ذهابي إلى النّادي طبعًا… ولكنْ كان لي يومٌ لممارَسة الرياضة. عُدْتُ يومًا مِن الكُلِّيَّةِ وَدَخَلْتُ أُلْقِي التحيَّةَ على أبي، كعادتي: أهلًا يا بابا.
أَبي مُبتَسِمًا: أهلين يا جميلة يا بنتي؟
جميلة: بخير الحمد لله.
أبي: الكليّة أخبارها إيه؟
جميلة: الحمد لله.
سَكَتَ أبي قليلًا ثمَّ استطردَ قائلًا: أودُّ أنْ أُحَدِّثَكِ بموضوع؟
جميلة: خير يا بابا.. اتْفَضَّلْ.
قالَ مرّةً واحدةً وكأنّه يخشى أنْ يرجِعَ في قراره بإخباري: في واحَد معجب بيكي، شاب من بالنادي.
رَدَدْتُ وقد احمرَّ وجهي خَجَلًا: مَن هذا؟؟؟ يا بابا أنا مَعرفش حدّ في النادي ومِشْ بَكَلِّمْ حدّ.
أبي: عارف يا بنتي هو قالِّي إنّه تِعِبْ جدًّا لَحَدِّ ما عِرِفْ اسمِكْ وِعِرِفْ يُوصَل لمكان شغلي.
سَكَتَ لحظاتٍ لِيَستَشِفَّ مِن تَعبيرات وَجهي الخَجُولة أيَّ أجابةٍ ثمَّ استطردَ قائلًا: هو بايِنْ عليه محترَم وشكْلُه جادْ مِن كلامه وعلى قدر كبير من العلم.
ازْدادَتْ حُمرة وجهي خجلًا ولم أستَطِعْ إلّا أنْ أُتَمْتِمَ ببعضِ الكلمات غير المفهومة، ودي كانِتْ أوّل مرّة بابا يكلِّمني في موضوع الجواز بشكل مباشر.
أَنْقَذَنِي أبي مِن تَرَدُّدِي قائلًا: بلا استعجال في الحكم عليه هو جاي بعد بُكره يزورنا مع خاله, والدُه ووالدتُه ماتُوا وهو صغير وخالُه ربّاه, وما شاء الله هو دِلْوَقْتِي في سنة الامتياز في كليّة الطِّبّ.
رَبَتَ أبي على كتفي في حنانٍ مُكَمِّلًا حديثَه في لهجةٍ حانِية: مِتْأَكِّدْ إنِّكْ هَتِعْرَفِيه كويِّس وبَثِقْ في حُكمكْ دايمًا على الناس.
ارْتَمَيْتُ في حُضن أبي وَقَبَّلْتُهُ قائِلَةً: تلميذتك يا أستاذي.
ضَحِكَ أبي قائلًا: طيِّب هيا بنا نحضَّر الغدا.
عَرَفْتُ مِن لمعةِ عُيُون أبي أنَّ هذا الشابَّ أَعْجَبَهُ كثيرًا، كانَ كأنَّهُ يتكلَّمُ عن صديقٍ مُقرَّبٍ، كان الموضوع في مُجمَلِه به شيء غريب, لكنْ في داخلي كانَ شوقٌ وفُضُولٌ لِمَعرفة ذلكَ المُعْجَبِ السِّرِّيِّ الذي استطاعَ الوُلُوجَ إلى قلبِ أبي العزيز، لكنْ ما فائدة الاستعجال والأيّامُ تَمُرُّ في لَمْحِ البَصَر؟!
وجاءَ اليومُ المَوعود… وما بين قلقِ أُمِّي ونصائِحِها التي لا تنتَهي كيف أَتَحَدَّثُ وكيف أجلِسُ ومتى أتحدَّثُ وماذا أَقُولُ والصراعِ الذي يَدُورُ بداخلي, كان بداخلي سؤالٌ واحدٌ؟ منذُ متى وأنا أَتَحَمَّسُ لرُؤية أَحَدٍ أو أَقْتَنِعُ أنَّ أَحَدًا قد يُحِبُّ شخصًا لا يَعْرِفُه؟
وَقَطَعَ صوتَ أفكاري نداءُ أبي: جميلة… يا جميلة… الناس على وْصُول يا بنتي.
أَخْرُجُ مِن غُرفتي مُسرِعَةً لِأُجيبَ: أنا هُنا يا بابا وجاهزة.
قالَ أبي وهو يَتَفَحَّصُنِي بنظرَةٍ حانِيَة: ما شاءَ الله، ما هذا الجمال تبارك الله يا جميلة؟! أُريدُكِ أنْ… قَطَعَ صوتُ الجَرَسِ كلماتِ أبي الذي أشارَ عليَّ بالدُّخُول لغرفتي وذهبَ لِيَفتحَ الباب.
وَجَلَسَ الضُّيُوف, مرَّتْ فترةٌ ما بين السلامات والكلام العاديِّ عن العائلة، يتخلَّلُه ذِكْرُ كلمةٍ أو ثِنْتَيْن عن السياسة وحالِ البلد، وأنا بالداخل يقْتُلُني المَلَلُ، مُنتَظِرَةً انتهاء البروتوكولات المُعْتادة وسماعَ الكلمة السِّحريّة, أينَ عروسَتُنا الحُلوة؟ حيثُ نَطَقَتْها بشيءٍ مِن الفُضُول زوجةُ خالِ ذلكَ الطبيبِ الذي لم يُخْبِرْنِي أبي باسمِه ولم أنْتَبِهْ لذلكَ إلّا وقتها اعْتَراني الغضبُ وَكِدْتُ أُقْسِمُ ألّا أَخْرُجَ قبلَ أنْ أَعْرِفَ كلَّ شيءٍ عنه، إلّا أنَّ والدَتي أَتَتْ لِتُنادِي عليّ.
قالَتْ أُمِّي: يالله يا بِنتي، سمير وأهله بالخارج، هيّا حتّى لا نَتَأخَّرَ عليهم.
حَدَّثْتُ نفسي قائِلَةً: مممم… سمير!! جيِّد إذن عَرَفْتُ الاسم, هناكَ تقدُّمٌ ملحوظ.
وَدَخَلْتُ إلى غرفة الجلوس يعتَريني كِبرياءٌ مَشُوبٌ بالخَجَل، أَذْهَلَتْنِي في البِداية رؤيته، وَتَذَكَّرْتُهُ على الفَوْر. كِدْتُ أَصِيحُ هل هذا أنت؟ كُنْتُ أراهُ دائِمًا بالنّادي، إنَّه لاعِبُ السَّلَّةِ صديقُ مُدَرِّبِ التِّنْسِ خاصَّتي.
حسنًا ليسا صديقيْنِ مِن فترة طويلة، إنّها صداقةٌ حديثة على ما أَعْتَقِدُ، وهذا يُفَسِّرُ الكثير.
أَغْضَبَنِي الأمرُ في البداية واعْتَبَرْتُهُ مُفْتَقِدًا للذَّوْق, لكنِّي آثَرْتُ الصَّمْتَ على أَمَلِ أنْ ينتَهيَ هذا اليومُ على خير… إِحِمْ إِحِمْ وبُدُونِ إصابات… تقدَّمْتُ بِصينيّة الجاتوه والعَصير، وجَلَسْنا جميعًا نَتبادَلُ أطرافَ الحديث، وتولَّتْ زوجةُ خالِهِ مَهَمَّةَ تَفَحُّصِي, في الواقع كانَ بعَيْنَيْهِ بريقٌ عجيبٌ ومُمَيَّزٌ في الوقت نفسه.
وفجأةً صاحَ خالُه شُكري كما طَلَبَ مِنِّي أنْ أُنادِيَه: بِجَدِّ يا أبو جميلة عندَكْ الكِتاب دا بالمَكتبة؟!
ردَّ أبي قائلًا: عندي مكتبة كامْلَة هَتِعْجِبَكْ، اتْفَضَّلْ معايا؟
ينهَضُ العَمُّ شُكري طبعًا لِيَلْتَفِتَ أبي إلى الطبيبِ قائلًا: إنْتَ في بيتكْ طبعًا يا سمير يا ابني.
لم تَخْفَ عليَّ تلك الحركات، فقد قالتْ أُمِّي لزوجَةِ خالِ سمير أنْ تَذْهَبَ معَها لِتُرِيَها شيئًا ما هي الأخرى، وبالطَّبع لِأَجْلِسَ معَه ونتحدَّثَ. ذَهَبَ الجميعُ وبالطّبع لم أبْدَأْ أنا بالحديث لِأَرى ماذا سيفعَلُ ذلكَ الطبيب اللبِق.
وَبَدأَ سمير…
سمير: أهلًا يا آنِسة جميلة.
جميلة: الحمد لله بخير يا دكتور.
سمير: اسمي سمير وأرجو تكوني فكراني مـ…
قاطَعْتُ حديثَه في لهفَةٍ: نعم أَتَذَكَّرُكَ, إنت صديق المدرِّب حازم.
ابتَسَمَ ابتسامةً خفيفةً وقالَ: مِن فترةٍ قصيرةٍ، في الواقِع كانَ هو الطريق الوحيد إليكِ.
في الواقع لم أَتَوَقَّعْ منه إجابةً جريئةً مباشِرَةً كَتِلكَ, فبادَلْتُه نفسَ تلك الابتسامة الواثِقة. كانَ في غاية الثقة, كلامُه يَجْمَعُ بينَ اللباقة والحَنان وبعضٍ مِن الغُمُوض.

ثمَّ أكمَلَ حديثَه: الأوِّل هَكَلِّمِكْ عن نفسي، أنا في سنة الامتياز بكليّة الطّبّ, لكنْ في نفس الوقت أَعْمَلُ معَ عمِّي بالشركة التي تَرَكَها والداي رحمةُ الله عليهما, تربَّيْتُ معَ جدَّتي وخالي وعندَما تزوَّجَ خالي عِشْتُ معَ جدَّتي, إنَّها سيِّدَةٌ حنون حكيمةٌ تُحِبُّنِي كثيرًا وَتَهْتَمُّ لِأَمري. حاوَلْتُ أنْ أُواسِيَه ببعض كلماتِ التعازي، لكنَّه ردَّ بِلُطف بأنَّه أمرٌ قديم وقد مَرَّ الكثير مِن الوقت. تبادَلْنا أطرافَ الحديث في أُمُورٍ مِن هُنا وهُناك، كانَ يتخلَّلُها بعض تعليقاتِه الظريفة وأفكارِه التي أَعتقِدُ أنَّها أغرَبُ مِن أفكاري المَجنونة.

هناك تعليقان (2):