الخميس، 17 مارس 2016

حكايه ملاك الجزء الثالث والاخير




وهنا تقطّب جبيني وبلعتُ ريقي، ومسحتُ دموعي ودعوتُه ليكمل بعيوني.
أكمل: وهنا ولأوّل مرّة أسمع كلام الكهنة، نصحوني بالزواج مِن بنت لم يسبق لها الزواج وكبر سنّها، وتعلّمتُ من زوجتي الأولى مريم الإيمان، وشاركتُها بصلواتها، كانتْ ملاكًا في حياتي. تقديسًا لزوجتي استمعْتُ لكلام الكهنة ولو لمرّة بحياتي، وكان الجحيم…
لم تُراعِ بناتي وكان لديّ مولودة وأصبحتُ مُشتّتًا لا أُركِّزُ في عملي، مُؤمنة وتُواظب على الصلاة ولكنْ لا إيمان لها أعلم ذلك، الإيمان والإخلاص والعمل.
كاذبة.. غير نظيفة.. لا تُجيد الطبخ ولا تَسعى حتّى للتعلُّم، كانتْ سيِّئة للغاية سيِّئة في كلّ شيء.
أُقاطعُه: ربّما حبُّكَ لزوجتِكَ الأولى!
قاطَعني: أنا رجل ناضج بما يكفي وأبٌ لابنة أربع سنوات ومولودة حديثة عمرها لا يتجاوز الشهر، لقد وعَدَتْني بالاهتمام ببناتي، وأخبرْتُها أنَّهنَّ أهمُّ مِنِّي، ووعدتني بالاهتمام بهنّ، ولكنّها كاذبة، الجميع اشتكى منها.
تسبَّبتْ لي بالكثير من الإحراج والحماقات، لم يعُد لبيتي أسرار ولم يعُد ببيتي حياة، مرَّ عام كأنّه عشرونَ عامًا.
تَدخَّلَ الكهنة أكثر مِن مرّة لإصلاح الأمر وتقديم النصح لها, ولكنْ أصبح لا أمل ولا حياة بهذه الطريقة.
انتقلْتُ للعيش مع أمّي وهجرْتُها لأنَّنا لا نُطلِّق، وفشلَتْ كلُّ مُحاولاتي معَ الكهنة لِتَطليقها، ومرَّ على ذلك خمسة عشر عامًا.
وما تَزال زوجتي بالكنيسة فقط، حاوَلَتْ أنْ تُرضيَني وتَسترْجِع حياتَنا، وكلّ مرّة كنتُ أُصدِّقها وأعطيها فرصة ولكنَّ الطباع لا تتغيَّر.
رعتْنا أمّي بمنزلها ورعَتْ بناتي وكُنّا عبئًا عليها، ولكن لم يكنْ هناك خيارات،  كانَ مِن المُمكن أنْ أنحرف، فأنا ما زلت شابًّا ولكنِّي حُرمتُ مِن حياتي، ليسَ لأنِّي مُتديِّنٌ مُدَّعٍ فقط بل لأنِّي أخشى الله بقلبي.
توسَّلْتُ إلى الكهنة لإيجاد مخرج، أحتاج إلى تطليقها وبشدّة، لا أريدها أنْ تحمل اسمي، عملت المستحيل ولكن لا جدوى.
وفي نظرة إغاثة وبنبرة صوت أكثر ارتفاعًا مُمسكًا بيدي: انصحيني يا ابنتي أهناكَ طريقة للخروج مِن هذا المأزق؟؟ ماذا لو ماتتْ أمِّي؟؟ مَن سيرعى بناتي وأنا عملي يعتمد على السفر؟؟ أنا لا أستطيع المَبيت معكم أرجع إلى منزلي يوميًّا بالتاسعة، أمّي كبيرة بالسّنّ ومريضة وتحتاجني دائمًا بجانبها، بناتي لا يُسعفنها أحيانًا فهنّ ما زِلْنَ صغيرات… ويضغط على يدي بشدّة ويبكي: أهناك مخرج؟؟
استغاثَتُه لي جعلتني أبكي ولا أرُدُّ.

ساءلْتُه: أما تزال تذهب للكنيسة؟؟
ضحكَ قائلًا: لقد أيقنْتُ أنِّي كنت على صواب مِن البداية، بالطبع لا، حتّى لا أراها،  ولكنِّي لديّ أمل كبير بربِّنا. أصلِّي دائمًا من أجل تَطليقها، لا أريد الزواج مِن أخرى ولكنْ لا أريدها أنْ تحمل اسمي، وأعيش على أمل أنْ يُساعدني الله بذلك، لا أدري كيف طلاقي سيكون بمثابة معجزة، وأنا فعلًا أحتاج معجزة من معجزات الأنبياء ولكن لم ولن أفقد الأمل.
التفتُّ للجميع فقد نسيتُ وجودهم، أغلبهم كان يمسح دموعه، هدأْنا جميعًا واستأذنْتُ للبحث عن تليفوني وحقيبتي فلم أُفوِّت هذه اللحظات من أجل ضياع التليفون، اللحظات الثمينة لا تُعوَّض أبدًا.
حقيقة الأمر كنتُ بحاجة لاستيعاب ما كان يُثير فضولي منذ أيّام، أحضرْتُ أشيائي وعُدتُ مرّة أخرى لغرفة الاجتماعات، اتَّفق الجميع على الأدوار بغيابي.
وأنا بدوري قَبَّلْتُ رأسه وشكرته لكونِه سيُساعدنا, شَكَرَني وأخبَرَني أنَّني أُشبِه ابنته أنجل, أخبرْتُه: أنا فعلًا مثل ابنتك, رُبّما إذا كنتَ تودُّ الخروج مِن هذا المأزق أَسْلِمْ لأيّام!!
فضحِكَ مُقهْقِهًا واستأذن بأنْ يغسل وجهه ويستعدّ ويرتدي لُبْسًا مُناسبًا للدور، اقترحتُ عليه أنْ أُساعده ولكنّه أجابني: أنا أُدرك دوري جيِّدًا لا تقلقي لقد كتبتِ قِصَّتي قبلَ أنْ تعرفيني، أهي واقعيّة؟؟
ابتسمتُ له قائلة: لا أدري رُبّما، وكأنّه سمع جوابًا مُناسبًا مِنِّي. انصرف مُسرعًا بحماس.
استمرَّتْ جلستنا بهذا اليوم لأكثر مِن ساعتين.. احتجْتُ بعدها فترة لأُدرك حقيقة ما أكتبه, وأستوعب عم ملاك وحكايته.
صعدت لسطح السفينة، بالطبع كان فاتني الغروب ولكنِّي أدركت الشفق، استنشقتُ مَزيدًا من الهواء الرطب وكانت أشدّ الليالي برودة فنزلتُ لنستكمل فيلمنا القصير.
تأنّق عم ملاك وكأنِّي أرى بطل قصّة لم يكن اختياري حيًّا أمامي، عندما رأيتُه فتحتُ فمي من الذهول فأخبرني: أخبرتُكِ أنِّي أعي دوري جدًّا.
لم أمتلكِ الكثير من الكلمات طوال أيّامنا الباقية، كُنتُ أفكِّر، كانَ يُمثِّل بحُبٍّ وشغف، بعيون لامعة وفرحة وسعادة وكأنّه البطل الحقيقيّ، حفظ دوره والكلمات مِن أوّل مرّة قرأها.
أربَكَ المُمثِّلة أمامه باندماجه بالدور، كانَ لا يُمثِّل، كان يفعل ما يُريد قلبه أنْ يعيشه ولو لحظات، لحظات حُبِّ، لحظات سعادة، أعجبَني كثيرًا أنّه أعطى لنفسِه فرصة ولو لم تكن حقيقيّة للحياة مرّة أخرى.
شكَرَني بعدها كثيرًا، وفي هذا اليوم عادَ إلى منزله في الثانية بعد منتصف الليل حيث انتهت البروفا بوقت مُتأخِّر، لم نشعرْ بالوقت نهائيًّا، أخبرَني أنّه أوّل مرّة يُمثّل، ولم يتمنَّ يومًا ذلك، ولكنّه شيء أشعَرَه بالسعادة.
لم يستطِعِ المَبيت بالسفينة وكان عليه العودة حتّى ولو لساعات للاطمئنان على بناته وأُمِّه المريضة، فعملُه يبدأ بالسابعة صباحًا، وموعدُنا أيضًا للاستيقاظ السابعة.
لم تغفَل عيوني وظللْتُ أتأمّل النِّيل والقمر والأشجار مِن شبّاك غرفتي إلى أنْ غفيتُ معَ الفجر واستيقظْتُ معَ الشروق. هبطْتُ صدفةً للوبي فقابلته بنفس الزّيّ الذي خرجَ به يعود للعمل.
ألقى عليّ تحيّة الصباح وهمَّ مُنصرِفًا مُسرعًا لعمله، وبدأْنا يومنا كعادتنا، كانَ هذا يومنا قبل الأخير، ولم أرَهُ، مرّة أخرى انشغلْتُ جدًّا ببرنامج اليوم.
وفي المساء بالسابعة سألتُ عنه فأخبرَني إيميل أنّه غادر اليوم من ساعة، شعرتُ بالذنب قليلًا، أرْبَكْنا له يومًا، أو يوميْنِ من حياته العمليّة.
وبيومنا الأخير غادرْنا قبل التاسعة صباحًا حيث موعد الطائرة للعودة للشمال مرّة أخرى حيث أنتمي, ولم أرَهُ وبحثتُ عنه بكلّ مكان وأخبرَني إيميل أنّه أخذ إجازة اليوم, شعرْتُ بالذنب مرّة أخرى, حملْتُ حقائبي وأنا على أمل أنْ أراهُ قبلَ أنْ أُغادر ولكنْ لا أمل.
وفي اللحظة الأخيرة وكما يحدُث بالأفلام ظهر عم ملاك قائلًا: أنا أجازه النَّهارده تعبان شويّة ولكن لازم أسلِّم عليكِ قبل أن تُغادري رُبّما لا أراك مرّة أخرى, ولكنِّي مُمتنٌّ لكِ وللقدر, فأنا دائمًا رجلٌ محظوظ, وبالنسبة للفيلم سواء اتْعَرَض واتقدّم أم لا, لقد أعطَيْتِني فرصة أنا مُمتنٌّ لها، كانت تَجرِبة فريدة بالنسبة لي أعادتْ لي الحياة يا ابنتي… أحبَبْتُ لفظ ابنتي منهُ كثيرًا, كانت صادقة بطريقة تلمس القلب.
لم تُسعفْني الكلمات, ودَّعْتُه على أمل أنْ أراهُ مرّة أخرى, وكان عليّ اللحاق بالأتوبيس.
وبعد عودتنا للإسكندريّة مرّة أخرى قرَّرْنا ألّا نعرض الفيلم… عم ملاك أيضًا دبَّ الحياة في نفوسنا بشكلٍ أو بآخر. لم أنسَهُ ولم نتواصل بعد عودتي، غير أنّه اطمئنّ عليَّ ذات مرّة أنِّي أخيرًا في منزلي. سلامي لك يا مَلاك الخير أينما كنتَ… أتمنّى أنْ تكونَ الآن معَ حبيبَتكَ الأولى.
أعلم أنّه مرَّ عامٌ على ذلك ولكنِّي أكتُب هذه القصّة بتاريخ 11/3/2016 وهو تاريخ عودتي وانتهاء رحلتي شمال وجنوب 11/3/2015 مصادفة غريبة، والأغرب هو صُدور قرار اعتراف الكنيسة بالطلاق والزواج الثاني في مشروع قانون الأحوال الشخصيّة الجديد للمسيحيِّين.
تمّ توسيع أسباب بُطلان الزواج ليشمل الإدمان والإلحاد والأمراض التي يَستحيل معها إقامة علاقة زوجيّة وإذا دام الهجر بين الزوجين مدّة خمس سنوات، لا أتخيّل مدى سعادته، أتمَّ الخمسين من عمره رُبّما ليس محظوظًا بما يكفي ولكنْ رُبَّما استجاب الله لصلواتك وتحقَّقتْ المُعجزة، معجزة الأنبياء رُبّما لاسمك دلالة يا عم ملاك.

هناك تعليقان (2):

  1. تعجبني القصص الواقعية .... خصوصا بوجود حبكة درامية تربط جميع الاجزاء وتعطي الابعاد المناسبة للشخصيات

    ردحذف
  2. فعلا رائعة 👏👏👏 احسنتى وبشدة 🌹💖🌹

    ردحذف