الثلاثاء، 15 مارس 2016

حكايه ملاك الجزء الثانى




توصّلْنا إلى أنّ أيّ فتاة يُمكنها تنفيذ الدور وأنا سأقوم بدور الصحفيّ و يتبقّى لنا دور الرجل البطل الأساسيّ، وهو رجل له مواصفات خاصّة، هندام مُمتلئ وقور؛ لأنّها شخصيّة عالِم, بسِنٍّ مُعيّن يتجاوز الخمسين.
دفعَني إبراهيم لإقناع الأستاذ جمال حسني المسؤول الأوّل عن شمال وجنوب، فرفض بالطبع ولم أتوقّع منه أنْ يُوافق، ولكنّه أخذَ القصّة وقرأها مشكورًا، وقدَّم لي بعض النصائح والتعديلات، وفي حقيقة الأمر حتّى هو لم يكُن البطل المُناسب.
يبدو أنْ لا أملَ لتنفيذ القصّة كفيلم قَصير فحتّى أقلّ المتاح لا يُجدي. نزلتُ للاستقبال، جلستُ أتأمّل النِّيل ولحظات الغروب كنتُ أعشقها ولم تفتْني أبدًا.
وغابتِ الشمس، وجلستُ معَ أصدقائي نتبادل الأحاديث إلى أنْ مَرَّ أمامي عم ملاك…
عم ملاك، عم ملاك. لمعتِ الفكرة لثوانٍ بعقلي ولم أتردَّد بسرعة البرق وقبل أنْ يختفيَ مرّة أخرى نادَيْتُ عليه بصوتٍ عالٍ: عم ملاك، عم ملاك.
أهلًا يا أستاذة.
أنا إسراء بس.
ابتسمَ لي قائلًا: تعالي معايَ يا إسراء بس المكتب، عندي شغل ونتكلم.
في الطريق لمكتبه يَسير أمامي وأسير وراءَه فباغتُّه قائلةً: عم ملاك نُريد منكَ أنْ تقوم بدور البطولة في فيلمٍ قصير لا أعلم إنْ كان لك بالتمثيل أم لا؟؟ ولكنَّ اللوكيشن الخاصّ بالسفينة رائع وألهمَ المخرج وألهمَني إمكانيّة تنفيذ القصّة هنا.
استدارَ لي وتوقَّف عم ملاك للحظات يتأمَّلُني ثمَّ قال: موافق… أين القصّة؟
كانتْ بيدي ثلاث ورقات أعطيْتُها له.
كنّا قد وصلْنا لباب مكتبه فاستأذنْتُه أنْ أدعه يقرأها دون وجودي، وسأنتظرُه بغرفة الاجتماعات بالسفينة المكان الوحيد الذي لنْ أجدَ أحدًا فيه، حال أنّه وافقَ على تمثيل الدور وأراد مناقشتي.
أعطَيْتُه القصَّة وصعدتُ درجات السلّم لغرفة الاجتماعات، كانَ سيأتي أنا أعرف ذلك.
تأخّر عم ملاك وأنا لا أعشق الانتظار, فنزلتُ له مرّة أخرى, فوجدْتُه على السلَّم مُمسكًا الورق بيديْه ويَبكي بحرارة.
فهرعتُ إليه: خير يا عم ملاك؟؟
مسحَ دموعه وتأمَّلني قليلًا وهدأَ: إسراء، قصّة لم يكن اختياري حقيقة, حدثتْ بالفعل, لم تكتبيها مِن خيالك؟؟
أخبرتُه رُبّما، ولكنْ لم أفهم سرَّ بُكائك.
عم ملاك: دعينا نجلس بغرفة الاجتماعات.
صعدَ أمامي لغرفة الاجتماعات ودخَلْنا وأغلَقْنا الباب… قلتُ في نفسي: وراءَه قصّة كما أيقنْتُ مِن نظرات عيونه أوّل مرة.
جلستُ بجانبه أستمع إليه ولم أفتحْ فمي بكلمة أو أبدأ بسؤاله.
عم ملاك والدموع تنهمرُ مِن عينيْه: لقد كُنتُ شابًّا وسيمًا لعوبًا، لا أُصلِّي ولا أذهبُ للكنيسة ودائمًا كنتُ أعترض على ما يدور بالكنيسة. كانُوا لا يُحبُّونَ وجودي ولا أنا أيضًا أُحبُّ التواجد بينهم. الكهنة بالصعيد لا يَقبلُونَ النقاش ويتمتّعون بكلّ شدَّة وحزم.
كنتُ مهندسًا خِرِّيجًا، شابًّا في مُقتَبل عمري، أحببْتُ فتاة فاتنة الجمال, وكُنتُ كلَّ يوم معَ فتاة لا أكترِثُ للحياة ولا للعادات والتقاليد، ولكنَّ فتاتي تركتْني وتزوَّجتْ بِغيري، أشعَرَني ذلك بالإهانة كثيرًا، ولكنَّ مُحاولاتي كلَّها باءتْ بالفشل مَعَها وتزوَّجتْ فلم ينصحْها الآباء مِن الكنيسة بالزواج منِّي وأبعدُوها عنِّي.
رغم أنِّي صالح ولكنْ -كما أخبرْتُكِ- الآباء قُساة، حاولْتُ أنْ أُواظِبَ على الصلاة وأتردّد على الكنيسة كي يُقنعُوها بي ولكنْ دون جدوى، وتزوَّجَتْ، فتركْتُ أسوان مدينتي وذهبتُ للقاهرة وبحثتُ عن عمل، فأنا مهندس اتِّصالات ووجدتُ عملًا, ولكنَّ خسارتي لِحَبيبتي جعلَتْني أكثر حِكمةً وهدوءًا.
النجاح في عملي يزداد فسافرْتُ منحةً للخارج وكنتُ بعيدًا عن التديُّن، لم ترُقْ لي حياة المُتديِّنين, وعُدتُ ولكنِّي عُدتُ هذه المرّة إلى أسوان حبيبتي بلدي.
علمْتُ أنّ حبيبتي هجرَتْ زوجَها وحدثَ بينهم خلافات ولكنَّ الكنيسة لا تُبيحُ الطلاق فانفَصلا شكلِيًّا لا رَسمِيًّا، هذا هو المُتديِّن رقيق القلب الذي نصحَها به الكهنة.
لم أطلُبْ مُقابَلَتها ولكنَّ أمِّي أخبرتْني أنّها كانتْ تَودُّها دائمًا بغيابي، ولمّا علمتْ بعودتي استأذنتْ لرؤيتي، كنتُ مُتشوِّقًا لرُؤيتها أكثر مِنها ولكنِّي لم أُفْصِحْ.
أصبَحَتْ عجوزًا وكأنّه مرَّ عليها (50) سنة، لم تعُدْ جميلة كما كانتْ، عامُ زواجٍ مِن رجلٍ لا تُحبُّه أصابها بالهَرَم وأصابني أنا أيضًا.
لم نتكلَّمْ كثيرًا عيونُنا هي مَن تحدَّثتْ، وكانتْ آخر مرّة رأيتُها بها، لم نتقابلْ إلى الآن وقد مَرَّ على ذلك الآن (35) سنة.
وهُنا بَرقَتْ عيناي وفتحتُ فمي ذُهولًا وانتقلتُ مِن موضعي وجلستُ أمامه، وكانَ لا يَزال يَبكي ويذرف دُموعًا ولم يُخْفِها عنِّي هذه المرّة.
أَتعلمينَ يا ابنتي أنِّي تَمنَّيْتُ أنْ أبكيَ منذ (35) سنةً ولكنِّي لم أكنْ أمتلكُ الدموع حينها، حتّى وأنا بينَ أيدي الكهنة بجَلَسات الاعتراف، لم أبكِ، يبدو أنِّي بين يَدَيْ قِدِّيسة الآن.
ابتسمتُ: الإنسانيّة دين يا عم ملاك.
هو: نعم معكِ حقّ.
وهُنا دخلَ الأصدقاء للقاعة، أصدقاء المشروع، فريق عمل الفيلم القصير (لم يكُنِ اختياري) مُهلِّلينَ: أين أنتِ؟ لقد فتَّشْنا عنكِ في كلِّ مكان حتّى تليفونك لا تُجبينَ عليه.
وهُنا تذكَّرتُ أنِّي لا أملكُ هاتفي ولا حقيبتي، لم أرتبكْ، فقد أخبرْتُهم بعيوني أنِّي أجلس معَ عم ملاك وربع ساعة ونتقابل جميعًا باللوبي.
لم أشأْ أنْ أُحرجَه، أُريده أنْ يُكمل قصَّته بأمان، ولكنَّه كان أكثرَ لُطفًا، دعاهم للحضور ومسحَ دموعه وأكملَ وكأنّه لا يراهم.
مُستكمِلًا عم ملاك: قرَّرْتُ حينَها أنْ أتزوّج كي تنساني حبيبتي السابقة، ولا تُفكِّر بي مُطلقًا. قرَّرْتُ الزواج مِن أجلها، وضعتُ قلبي بالرَّفِّ الأعلى لمكتبتي بجوار الكتب وبحثتُ عن زوجة بعقلي “الزواج عيشة أمّا الحبّ مزاج” أدركتُ ذلك.
أنا: أتعرِفُ مَن قائل هذه المقولة؟؟
فَضَحِكَ، مَن؟ إنّها معروفة.
أنا: إحسان عبد القُدُّوس في رواية “الطريق المَسدود”، تعرف أنِّي كتبتُ رواية كاملةً اسمها “مِن مُذكّرات شابّة بالأربعين” حول هذه الجُملة.
وسألَني وقتها إنْ كانتْ نُشِرَتْ أم لا، فأخبرْتُه أنّها لم تُنشَرْ بعد، وهي الآن أصبحتْ مَنشورةً، مرَّ عامٌ على ذلك اللقاء، الكثير مِن الأمور حدَثَتْ.
عم ملاك يُكمِلُ حديثه: وجدتُ زوجةً مناسبة، كنتُ حينها بعمر الثلاثين، نَصَحَها الكهنة أيضًا بالابتعاد عنِّي، وكانتْ طيِّبةً جِدًّا ورَزينة، ولم تَستَمعْ لهم. أحبَّتْني وأخبَرَتْني أنّها ستسمع كلام قلبها هذه المرّة.
بَرَقَتْ عيوني ووعَدْتُها أنّها لن تندَمَ وحافظتُ عليها وأَحْبَبْتُها… أحبَبْتُها جِدًّا أكثر مِن حبيبتي التي نَدِمْتُ عليها، حافظَتْ على بيتي وأموالي، كانتْ زوجةً بكلِّ ما تَعنيه الكلمة.
وأَنْجَبْنا ابنتنا الأولى ” أنجل… أنجل ملاك” وكُنّا في غاية السعادة، طبيعة عملي تطلَّبتْ مِنِّي السفر والغياب عن المنزل لأوقات طويلة، كانتْ ترعى أمِّي وتُحِبُّها، وأُمِّي أيضًا أَحَبَّتْها.
وبعدما أنجبَتْ ابنتنا الثانية “مريم” أُصيبَتْ بالهزال والمرض، تركْتُ عملي ولازمْتُها، ليس لأنِّي وعَدْتُها بذلك يومًا, ولكنْ لأنّها كانتْ تستحقُّ حياتي, عاشَرَتْني بالمعروف وراعَتْني في غيابي, الجميعُ أَحَبَّها, لم تكُنْ فاتنة الجمال ولكنْ كان لها روحٌ غاية في الروعة.
بَدَأَتْ دُمُوعي تنهمر وسألْتُه: أهي مُتوفِّية الآن؟
تحرَّك كتفاهُ مِن البُكاء وارتفعَ صوت حُزنه: نعم، ماتَتْ بعد زواجٍ دامَ خمسَ سنوات، أُصيبَتْ بالسرطان وكان في مرحلة مُتأخِّرة بعد الولادة الثانية، كنتُ على أتَمِّ استعداد لإرسالها للعلاج بالخارج, ولكنْ لم تُسْعِفْني الحياة لأُعَبِّرَ لها عن حُبِّي وامتناني لكونها بحياتي.
ظَنَنْتُ أنَّ القصَّةَ انتهَتْ بِمَوتها, أَبْلَغْتُه بالغَ أسفي لذلك, ولكنَّه أكملَ قائلًا: كُنتُ أعتقدُ مثلَكِ أنَّ هذا الجُزء هو الأسوأ في حياتي.
يتبع…



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق