السبت، 30 يوليو 2016

كيف أثَّرَتْ مواقع التواصل الاجتماعيِّ على علاقة المرأة بأُسْرَتِها؟


قرَّبَتْ وسائل الاتِّصال الحديثة بين الأشخاص المُتباعدين جُغرافيًّا، وجَعَلَتِ العالَم يَبْدُو بحقٍّ كَقَرْيَةٍ صغيرة مِن حيثُ سُهُولةُ التواصل وتبادل المَعلومات والخِبْرات، وإنْ كانَتْ هذه القريةُ الصغيرة اتِّصالًا لا تزالُ عالَمًا مُتَنائيًا مُتنافِرًا أفكارًا وَقِيَمًا. وفي تقرير خاصٍّ لِوِزارة الاتِّصالات المِصريَّة حول عدد مُستخدِمِي الفيسبوك الذي وَصَلَ إلى (16) مليونَ مُستخدِم.

ولكنَّ المُفارقة المُدهشة في ثورة الاتِّصالات أنَّها قَرَّبَتِ المُتباعدينَ وأبعدَتِ المُتقاربين، فالمرْءُ يتواصلُ بانسيابيَّةٍ واستمتاعٍ معَ أشخاصٍ مِن أقاصي الأرض، ويُخَصِّصُ لذلك أَوقاتًا غالية، ولكنَّه يَستَثقِلُ أنْ يَمُرِّ على أُمِّه للاطمئنان عليها، أو أنْ يَمْنَحَ أبناءَه ساعةً مِن نَهارٍ يَتَعارَفُونَ خلالها، أو أنْ يُفارِقَ مَقْعَدَهُ لِيَتنزَّهَ معَ أصدقائه الحقيقيِّين. والمرأة قد يكونُ لديها عشراتُ الصديقات مِن دُوَلٍ مختلفة، فهذه صديقة مِن الهِند، وتلك أخرى مِن السِّنْدِ، وثالثة مِن القُطب الشماليّ، ورابعة مِن جبال الأنديز، تبنِي جسورَ تواصلٍ وتفاهمٍ معَ أشخاص مُختلفين، ولكنَّها تَضيقُ ذرعًا ببناء جسر معَ جارةٍ قريبة لها ولو بإلقاءِ السّلام، أو تهنئة بالعيد، فَجِسْرُ التواصل مُحبَّبٌ وسهلٌ في العالَم الافتراضيّ، ومعَ الأشخاص الإلكترونيّين، ولكنَّ حاجِزَ الفُرقة والانعزال للمُقرَّبينَ مَكانيًّا في ذلك العالَم الحقيقيِّ المُمِلِّ التقليديّ -الذي لا تُديرُه “الكليك”، وليسَ فيه خيارُ “الظهور دونَ اتِّصال”- صعبٌ. هذه النظرة السلبيّة لوسائل الاتِّصال الحديثة التي تتِّهمُها بإفساد الإحساس الاجتماعيّ لدى الأفراد، لا تَتَّفِقُ عليها الدراسات، فالبَعض يعتَبرُها مُغالاةً وتصلُّبًا أمامَ تطوُّرٍ هائلٍ وإيجابيٍّ مِن أَروَعِ ما اخَتَبَرَتْه البشريّة.

ومِن أخطرِ الأمور على الأسرة هو إدمانُ أَحَدِ الزوْجَين على الإنترنت، وافتِتانِه بمواقِع الرّذيلة، فهذا الأمرُ لا يَضرِبُ الثقة الزوجيّة في مَقتلٍ فحسب، وإنَّما يُغَيِّرُ طبيعةَ التفكير والإحساس، ويجعلُ الرغبة الطبيعيّةَ تُوجَدُ في ظُروف خاصّة، ولا يَعُودُ للمُؤثِّرات العاديّة بين الزوجين أيُّ قوَّةٍ تُذْكَرُ. فخُطُورة مُمارسة الرذيلة عبر الإنترنت ليسَتْ كغيرها، فالرَّجلُ المَفتُون بالمواقع الإباحيّة يَزْهَدُ في زَوجته، وَتُصْبِحُ الرغبةُ عندَه مُشفَّرة، ولا يَفُكُّها سوى جوِّ العُزلة والسِّريَّة والإلكترونيّة الذي تُوَفِّرُه غُرَفُ الدردشة، والمواقع المَشبوهة. وقد حَدَتْ هذه الحالةُ بالبعض إلى إطلاق لقب “أَرامِل الإنترنت” على الزوجات اللاتي يُعانِينَ مِن سُقوط أزواجهنَّ في مُستنقَعِ المواقع الإباحيّة، ويَغِيبُونَ عن مُمارسةِ أيِّ دورٍ حقيقيٍّ في حَياتِهنّ أو حياةِ الأبناء.

ولا تَقْتَصِرُ الخُطُورة على مواقع الرَّذِيلة، بل إنَّ طُولَ البَقاء أمام الإنترنت يَقْتَطِعُ وقتَ الأُسرة في كثيرٍ مِن الأحيان. تتحدَّثُ إحدى أرامل الإنترنت عن زوجِها قائلةً: أَعلمُ تمامًا أنَّ زوجي لا يستخدِمُ الإنترنت لدُخُول مواقعَ سيِّئةٍ، ولكنَّني أَكرَهُ هذه الشبكةَ؛ لأنَّها سَلَبَتْ أُسرَتي لَحظاتِ الاجتماع الدافئة الجميلة. وتُضيفُ: يُحِبُّ زوجي الجُلُوسَ طويلًا على الإنترنت، فعندما يأتي مِن عملِه الطويل، يتناولُ الطعام بِسُرعة، لِيُهَرولَ إلى الحاسوب ويفتحَ الإنترنت، وهو مُغرَمٌ بالمُنتديات الحِواريّة التي يُشارك فيها مُشاركاتٍ رائعة، وَيَنْصَحُ الآخرين، ولكنَّني أنا وأبناؤه أحوجُ إليه مِن غيرِنا. وتَستطْرِدُ قائلةً: إنَّني أتذكَّرُ حياتي قبل اختراع الهاتف المحمول، والإنترنت، كانَتْ أكثرَ سعادةً وهدوءًا وَتَواصُلًا، فوسائل الاتِّصال الفظيعة هذه قَطَعَتِ الصلات بين أفراد الأسرة والأشخاص المُقرَّبينَ لِصالح عالَمٍ وَهْمِيّ. وأخرى تَروِي قصَّةً مُؤْلِمَةً، حيثُ هَدَمَ الزوج الأسرةَ مِن أجلِ فتاةٍ أجنبيَّةٍ عَرَفَها عن طريق الإنترنت وأَحَبَّها وَتَعَلَّقَ بها، فَأَرْسَلَتْ له تأشيرةَ الدخول ومصاريفَ السفر، فَلَهَثَ وراءَها وَتَرَكَ زوجَتَه وأبناءَه. وَيُخْبِرُنا (أ. م) أحدُ مُستخدمي الفيسبوك عن مُحاولةِ تحرُّشِ إحداهُنَّ به بالكلمات المُسيئة الخارجة عبر الفيسبوك، حيثُ تتزايَدُ الساقطاتُ لِمُمارَسة الرذيلة على حدِّ وَصفه.


ومِن هُنا تَطوَّرَتِ الخِلافاتُ الأُسريَّةُ فأصبحتْ مسألةَ كرامةٍ، تَغارُ على زَوجها مِن فتاة الفيسبوك, أو تَطلُبُ الطلاق بسبب تعليقِ إحداهُنَّ, وأحيانًا تطلُبُ الزوجةُ الطلاقَ بسب علاقاتِ زَوجها الفيسبوكيّة, أمّا الزَّوْجُ فَيُخْبِرُ زوجَتَه صراحةً أنا أو الفيسبوك فيعزِلُها مُقابل اندماجه الفيسبوكيّ. وأصبحَتْ مواقعُ التواصل الاجتماعيّ وسيلةً للهَرَبِ مِن المُشكلات وتسبَّبَتْ بالعُزلة الاجتماعيّة للكثيرينَ، حيث أَصابَتْهم بالأمراض النفسيّة كالاكتئاب وغيرها.


ويبحثُ الكثير مِن الشباب عَن نِصفِهم الآخر في الإنترنت مُعلِّلينَ ذلك بأنّه يُعَوِّضُ دور الخطبةِ قديمًا وبناءً عليه فالدور الأُسريّ في التربية والتوجيه النفسيّ أَصْبَحَ يتناقَصُ في مُقابل دُخول الكثير مِن الشركاء في تلك العَمليّات، ولعلَّ أَوَّلَ أولئك الشركاء في الوقت الحالي هو ما يُمَثِّلُ مواقع التواصل الاجتماعيّ، في حين تَراجَعَ دور القنوات الفضائيّة إلى المرتبة الثانية، أمّا الأسرةُ فتأتي اليوم في المرتبة الأخيرة؛ وذلك بسبب المُغريات التي تُقَدِّمُها مواقع التواصل الاجتماعيِّ للتفاعل الإيجابيِّ أحيانًا والانحراف الأخلاقيِّ لِمَن سَجَّلَ حالةً مِن الانحراف، بمعنى أنّها في النهاية جاءَتْ لِتَفُوقَ ما تُقَدِّمُه الأسرة التي أصبَحتْ في كثيرٍ مِن المَواقع فاشلةً كلَّ الفَشَل في مُنافسة تلك المُتَغَيِّراتِ التي سَيْطَرَتْ سيطرةً شِبْهَ تامَّةٍ على كثيرٍ مِن أبنائنا، بل للأسف نَجِدُ أنَّ بعض الأُسَرِ تَعْتَبِرُ تفاعُلَ أبنائها معَ مواقع التواصل الاجتماعيِّ نوعًا مِن خُصوصيّاتهم، وأنَّ الأسرةَ ليس لديها أيُّ صلاحية للتَّدَخُّلِ في تلك العلاقة التفاعليّة، وهذا ما يَجعَلُ الأبناء في عُمرهم الحَرِجِ والخطير كالمُراهقَة يُدْمِنُونَ استخدامَ مواقع التواصل الاجتماعيّ، دونَ أنْ يَجِدُوا مَن يَسأَلُهم عن مُحتوى أحادِيثهم أو حتّى الجهة التي يتحدَّثُون لها، فالأُسرة أصبحتْ في كثيرٍ مِن المنازل مُهَمَّشَةً تَهميشًا تَعْتَبِرُ فيه أنَّ تلك الحواراتِ مِن خُصوصيّات المُراهِق، وأنَّه لا حَقَّ لأحدِ الوالدين في التدخُّلِ في أيٍّ مِمّا يَدُورُ، وبذلك يَنْشَأُ المُراهقُ على ذلك مُهَمِّشًا دورَ والدَيْه، وهذا يعني أنَّ هناك حواراتٍ مختلفةً تَدُورُ في الظلِّ على مواقع مختلفة للإنترنت، ولعلَّ أوَّلَها مواقع التواصل الاجتماعيّ، وبهذا فإنّ احتماليَّةَ الانحراف الأخلاقيِّ هي أمرٌ وارِدٌ لدى البعض؛ لأنَّ بِناءَ الحصانة الداخليّة لا يَتَساوى بين الأُسَر، ويختلِفُ تقبُّلُه مِن مراهِقٍ إلى آخرَ حتّى على مُستوى الإِخوة في المَنزل الواحد، لذا فإنَّ الدور الأُسَريَّ لا بُدَّ أنْ يكونَ المُوَجِّهَ الأوَّلَ والمُشْبِعَ للأبناء عاطفيًّا ونَفْسِيًّا، قبلَ أنْ يكونَ مَصْدَرًا مِن أَهَمِّ مَصادِرِ الإحباط النفسيّ.

ومعَ تطوُّرِ التكنولوجيا وكثرة استخدام الانترنت ظَهَرَ نوعٌ جديد من أنواع الحُبِّ يُسَمّى الحُبَّ الإلكترونيَّ أو الحُبَّ الافتراضيّ كما أحِبُّ أنْ أُطْلِقَ عليه؛ لأنَّها علاقاتٌ غالِبًا لا يُعَوَّلُ عليها لا تَدُومُ ولا تَسْتَمِرُّ ولا تَنْتَهِي. فالتَّواصلُ على المواقع الافتراضيّة يختَلِفُ تمامَ الاختلاف عنِ التواصل بالمُجتمع الواقعيِّ، بمعنى أنَّه من المُمكن أنْ تكونَ مُعتادًا على التكلُّمِ معَ شخصٍ على الإنترنت لكنَّ رؤيةَ الشخص في العالَم الواقعيِّ تجعلُ الانطباعاتِ مختلفةً تمامًا, يعنِي لو أنَّكَ ترتاحُ لإنسانٍ في الإنترنت فلا يعني أنَّ رُؤيَتَه في العالَم الواقعيِّ سَتَحْمِلُ الانطباعَ نفسَه، مِن المُؤَكَّدِ أنَّكَ سَتَشْعُرُ أنَّ في الأمرِ شيئًا غريبًا. وهذا ما يُسمّى “وَهْمَ الحُبِّ”, البحثُ عمَّنْ يَرْوِي ظَمَأَ الحياة وبناءً عليه فهل أَثَّرَتْ مواقع التواصل الاجتماعيِّ على الكيانِ الأُسَريِّ؟ إنْ كانَ سِرُّ نجاح قنوات التواصل الاجتماعيِّ وما سُمِّيَ بـ”الإعلام البديل” أو “التكميليّ” يَكْمُنُ في إزالتها للحُدُودِ والحَواجز كافَّةً في عالَمٍ افتراضيٍّ فبالطَّبعِ أَثَّرَ على أفرادِ الأسرةِ مِن أكبَرِهم إلى أصغرهم من الآباء إلى الأبناء, ومِن هُنا يتطلَّبُ الأمرُ تبنِّيَ برامجَ ومُبادراتٍ عربيّة تُثَقِّفُ النَّشْءَ بكيفيّة التعامل مَعَ مواقع التواصل الاجتماعيِّ وتَرْبِيَتِهم على الإيجابيّاتِ لِتَطويرِ المُحتوى الرقميّ العربيّ. بما يُعودُ بالنَّفْعِ على تعزيز الثقافة والفِكر؛ للنُّهوض بالمُجتمعات العربيّة، وتدعيم المَفهوم الجديد للمُواطنة “المُواطنة الرقميّة”، وكيفيّة تكريس النشْءِ العربيِّ لِخِدمة مُجتَمعِه عبرَ مواقع التواصل الاجتماعيّ.


في العالَم الواقعيِّ يُقلَّلُ مِن لُجوء الأفراد إلى المُجتمعات الافتراضيّة، فالذينَ تَحْفَلُ حيواتُهم بالعمل والنشاط، ويَعيشونَ حياةً أُسريّة مُستقرّة، ولهم علاقاتٌ اجتماعيّة مُثمرِةٌ، ويَشعُرُونَ بِتَعاطُفِ المُحيطينَ بهم مَعهم، ويَحْظَوْنَ بالقَبول، في الواقع لا يَجِدُونَ كثيرًا مِن الوقت للحياة في العالَم الافتراضيّ. ليسَ هناك ارتباطٌ عكسيٌّ حتميٌّ بين الاستقرار والعمل في الواقع وبين استخدام مواقع التواصل الاجتماعيّ، غير أنّ هناكَ ارتباطًا واضحًا بين الفراغِ وعدمِ الإشباع النفسيِّ والاجتماعيِّ في الواقع والانهماك في الحياة في العالَم الافتراضيِّ، كما تَرِدُ على ذلك إشارات أُخرى في موضع لاحِق. أمّا الصداقات الافتراضيّة، فيبحثُ كلٌّ مِنّا عمَّنْ يَروي ظَمَأَ حياتهِ بكلمات, فَتَتَفاقَمُ احتمالاتُ وُقُوعِ كثيرٍ مِن الأزواج في فخاخ العلاقات الافتراضيّة؛ لانشغالِ أحدهما عنِ الآخر، فَبَدَلًا مِن أنْ يَمُدَّ الزوجُ يَدَه بالمُساعَدة يهرُبُ إلى عالَمٍ مِن الانبهار الوّهْمِيّ.


ولعلَّ مواقِعَ التواصل الاجتماعيِّ تحمِلُ ما تَحْملُه من الإيجابيّات والسلبيّات، بل سلبيّاتها تفوقُ إيجابيّاتها لِمَن تَعاملَ معها بِلا وَعْيٍ، حيثُ تُنْقَلُ الكثيرُ مِن الشائعات والخُرافات، وتُنْقَلُ أيضًا مقاطعُ الأفلام المُقَزِّزة بل والمُخلّة بالأدب أَحيانًا، والفكرةُ هُنا هي أنْ تُدْرِكَ الأُسرةُ كيفَ تعملُ على أنْ تكونَ الرقيبَ والمُرشِدَ والمُشْبِعَ مِن خلال تَعديلِ توجُّهاتِ أبنائها وتصحيحها، ولنْ يَتِمَّ ذلك دونَ أنْ تَشْعُرَ الأُسرةُ بأَحَقِّيَّتِها في الدُّخول بِوُدِّيَّةٍ وصداقةٍ إلى ذلك الصَّرْحِ المَنِيع، الذي يُحارِبُ كثيرٌ مِن المُراهقين لِنَيْلِ خصوصيَّته.


نحنُ في حاجةٍ إلى التوعية والإرشاد مِن الانحرافات الأخلاقيّة التي أَصبَحتْ موجودةً ومُتعدِّدةً بسببِ نَقْصِ التوعية، فالوِقاية خيرٌ مِن العِلاج، وفي كثيرٍ مِن الأحيان قد لا يُجْدِي العلاجُ بعد استفحال المرض. إنَّ التربيةَ فَنٌّ ومَهارة، ولكنْ لا تَزالُ هناكَ أُسَرٌ نائِمة، قد لا تَسْتَيْقِظُ إلّا بعدَ فَواتِ الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق