الجمعة، 26 يناير 2018

جينوم البشرى بين نعمة الاكتشاف ونقمة التطبيق



جينوم البشرى بين نعمة الاكتشاف ونقمة التطبيق
أ.د. محمد لبيب سالم- د . صبرى النجار
مما لا شك فيه اننا نشهد فى هذه الآونة ثورة علمية هائلة فى جميع المجالات تتمثل فى اكتشاف واماطة اللثام عن العديد من الحقائق العلمية فى نواحى العلوم المختلفة كالطب والهندسة والفيزياء والجيولوجيا والبيولوجيا وفى المجالات الحديثة مثل النانوتكنولوجىNanotechnology والليزر والتكنولوجيا البيولوجيBiotechnology . ومع تقدم العلوم واكتشاف طرق حديثة لعلاج العديد من الأمراض وحل المشكلات المختلفة التى تواجه البشر أصبح الانسان قادرا على مواجهة العديد من المشاكل مثل اكتشاف الأمراض وتشخيصها مبكرا مما يؤدى الى وصف العلاج المناسب فى الوقت المناسب. ويسهم اكتشاف وظائف الجينات فى انتاج كميات هائلة من المواد الغذائية بتكنولوجيا حديثة تكفى لسد احتياجات العديد من البشر بصورة اوفر واسرع. وباستخدام التكنولوجيا البيولوجية الحديثة أمكن تعديل وتحسين سلالات مختلفة من الحيوانات والنباتات والتى تستخدم كمصادر غذائية للانسان (انظر الجدول). ومع هذه المميزات التى توفرت نتيجة لتقدم العلوم والتكنولوجيا الا ان كثير من المشاكل قد تاتى من وراء هذا التقدم العلمى لو ابتعدنا عن الطريق السليم واخلاقيات البحث. وفى هذا المقال سوف نتكلم عن الجينوم البشرى واستخداماته فى التكنولوجيا البيولوجية. كما اننا سوف نوضح بايجاز ماذا لو استخدم الجينوم البشرى خارج نطاق اخلاقيات البحث العلمى وأعراف المواثيق الدولية.
ما هو الجينوم البشرى: الجينوم البشرى Human Genomeهو عبارة عن المادة الوراثية الدنا DNA والتى تتواجد بداخل النواة فى خلايا الكائنات الحية ونلاحظ ان كلمة الجينوم هى مزج لكلمتين وهما (الجين) Gene والصبغيات (الكروموسوم)Chromosome . والجينوم يوجد فى خلايا الكائنات الحية سواء كانت حيوانية ام نباتية بسيطة او معقدة فى التركيب. ويمكن تشبيه أهمية الجينوم لوظائف الخلية بأهمية المخ لوظائف الجسد. فالمخ Brain هو مكان التدبير والتنظيم المحكم لكل الاعضاء الاخرى فى الجسم حيث يقوم بالتنسيق والترابط بين الاعضاء المختلفة فى الجسم مما يضمن استمرار عمل الجسم بشكل محكم ومنظم ولاهمية المخ فانه محاط بغلاف صلب وهى الجمجمة بالمثل فنظرا للأهمية القصوى للجينوم فان الله سبحانه وتعالى قد وضعه فى مكان امين للغاية وهى النواة Nucleus التى تتوسط معظم الخلايا حيث لا يخرج منها ابدا بل يرسل نيابةعنه mRNA الحمض الننوى الريبوسى الرسول لكى ينقل الرسائل المهمة للخلية والتى تترجم الى بروتينات. ولذلك اذا اردت معرفة الانسان فما عليك الا ان تفك شفرات جينومه. ففى الانسان على سبيل المثال توجد فى الخلايا الجسدية 46 كروموسوم (23 زوج من الكروموسومات) بينما تحتوى الخلايا الجنسية على نصف هذا العدد من الكروموسومات اى (22+(X او ) 22+ (Y. ففى النواة توجد الكروموسومات التى تتمثل فى المادة الوراثية DNA والتى تحتوى على الجينات الوظيفية وغير الوظيفية. وتتكون المادة الوراثية من شريط مزدوج يلتف التفاف حلزونى حول نفسه حيث ترتبط النيكليوتيدات على كل من الشريطين بشكل مكمل ويدعم هذا الارتباط وجود بروتينات هستونية Histones. لم تكن هناك معلومات كثيرة عن الجينوم او المادة الوراثية الى ان جاء اكتشاف العالمان واطسون وكريك لتركيب المادة الوراثية. مع نهاية عام 1980 قدرعدد الجينات البشرية التى اكتشفها العلماء فى ذلك الوقت بحوالى 450 جين وفى عام 1985 ازدادت الى 1500 جين بعضها من الجينات المسببة للاورام والكوليسترول وامراض اخرى. ولقد نشات فكرة عمل خريطة للجينوم البشرى تحديدا سنة 1984 حيث اشتركت ثمانى عشر دولة منها الولايات المتحدة الامريكية وكندا والصين واليابان وروسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا وهولندا والسويد واسرائيل لارساء خريطة جينية الجينوم البشرى. وللاسف الشديد لم تكن من بين تلك الدول أى دولة عربية على الاطلاق. واستهدف المشروع عمل خريطة لمعرفة أماكن الجينات الوظيفة وغير الوظفية على الجينوم البشرى ومعرفة ترتيب القواعد النيكلوتيدية لكل جين على حدة مما يؤدى الى استخدام تلك المعلومات فى المجالات المختلفة مثل قطاع الصحة والصناعة والرزاعة وغيرها من المجالات المختلفة .
وبعد سنوات من العمل المتواصل تمكن العلماء من الانتهاء رسم الخريطة الجينية للجينوم البشرى حيث وجد ان أنه يحتوى على حوالى 30.000 الى 40.000 من الجينات الوظيفية حيث يحتوى كل جين على شفرات محددة يمكن ترجمتها الى بروتين معين ليقوم بوظيفة محددة فى داخل الخلية او بخارجها. اما باقى الجينات فهى جينات غير وظيفية Junk genes لا يمكن الاستفادة منها فى الترجمة (أى بناء البروتينات) ولاكن تلعب ادوار اخرى فى الخلية . ونظرالأهمية الجينوم البشرى فان الكشف عن تحديد أماكن الجينات الوظيفية 40.000 على كل كرووسوم ومعرفة التتابع النيكليوتيدى (القواعد) بات من الضروريات القصوى للعلماء فى هذة الاونة. وتعرف عملية تحديد مكان الجين الوظيفى باسم رسم الخرائط Mapping اما عملية تحديد ترتيب القواعد النيكليوتيدية لكل جينوم على حدة فى الجينوم البشرى تسمى باسم التتابع الجينى Sequencing . ومن خلال الدراسات المتواصلة والبحث فى هذا المجال وجد ان طول جزئ ال DNA فى كل خلية من خلايا جسم الانسان يقدر بحوالى من 1.8 الى 2 متر فى الطول. ونظرا لان جسم الانسان يحتوى تقريبا على حوالى 100 ترليون خلية ولذلك فان طول جزئ ال DNA فى الجسم كله يقدر بحوالى 8000 ضعف المسافة بين الارض والقمر ذهابا وايابا. وقد وجد ان الجينوم البشرى مكون من رسالة يتكون نصها من حوالى 3 مليار حرف وفى حالة كتابتها جملة واحدة فسوف نحتاج الى 200 كتاب بحجم دليل الهاتف لكى تكتب جميع الحروف اى ما يعادل 100 الف صفحة من الحجم الكبير. وتحتوى المادة الوراثية DNA فى جسم الانسان على حوالى 3000 مليون زوج من القواعد الوراثية وبالتالى فان جسم الانسان يحتوى على 3 مليار زوج من تلك القواعد وبالتالى يمكن استنتاج ان طول كل جين على حدة من ال 40.000 جين الوظيفية يتراوح طولة من 20.000 الى 400.000 قاعدة نيتروجينية.
كيف تمكن العلماء من فك شفرات الجينوم البشرى: تمكن العلماء من فك شفرات الجينوم البشرى وذلك بالاستعانة بالبكتريا والبلازميدات Plasmids والتقنيات الحديثة من الاجهزة المختلفة مثل اجهزة الطرد المركزى عالية السرعة Ultracentrifuges والتى تعمل تحت درجات حرارة منخفضة وكذلك المعامل المجهزه لنمو تللك البكتريا وتكاثرها بشكل لا يوجد معه اى تلوث. وبواسطة هذه الامكانيات تم فصل الجينوم البشرى عن طريق استخدام مواد تعمل على فصل المادة االنوويةDNA من باقى مكونات الخلايا بحيث تكون فى صورة شديدة النقاء ولا تحتوى على اى مكونات اخرى. ومن ثم تقطيع المادة النووية الى شظايا من DNAتراوح طول كل منها من 40.000 الى 200.000 حرف. وتم تمييز وفصل كل قطعة على حدة بحيث يمكن بعد ذلك معرفة مكانها الاصلى على الكروموسومات وبالتالى على الجينوم البشرى وبعد ذلك يتم ربط هذه القطع (الشظايا) بصبغ اصطناعى بكتيرى لاستنساخ عدد كبيرمن تلك الشظايا على ان يتم فصلها بعد ذلك من الخلايا البكتيرية. وبعد ذلك يتم تكسير كل شظية على حدة الى قطع أصغر حجما وبصورة عشوائية ويتم ربط كل قطعة من تلك القطع الصغيرة بواسطة بلازميد Plasmid (البلازميد هوعبارة عن حلقة من المادة النووية تتمكن من التكاثر تلقائيا فى الخلايا البكتيرية دون الاندماج مع المادة النووية للبكتريا) ويتم ادخال البلازميد فى الخلايا البكتيرية وبالتالى تم اكثار القطع الجينية المحملة على البلازميد مع زيادة اعداد الخلايا البكتيرية المتكاثرة. وبعد ذلك تتم فصلها والتعرف على تسلسلل القواعد النيكلوتيدية على تلك القطع بواسطة استخدام التقنيات الحديثة.
نعمة اكتشاف الجينوم : تمكن العلماء منذ عام 1986 الى الآن فى فك معظم شفرات الجينوم البشرى ومعرفة وظائف الجينات المختلفة التى توجد على الكروموسومات الجسدية والجنسية وذلك بعد عمل متواصل ومجهود شاق فى العديد من المعامل المختلفه فى الولايات المتحدة الامريكية ودول اخرى كثيرة فى انحاء العالم والتى ساهمت فى تمويل مشروع الجينوم البشرى والذى وصلت تكاليفه الى مليارات من الدولارات. ولعل من أهم الاسباب التى دفعت العلماء الى فك رموز الجينوم البشرى هو الرغبة فى معرفة اماكن الجينات المسببة للامراض الوراثية. والآن وقد حان الوقت للاستفادة من هذا الاكتشاف الهائل فى حل المشكلات الصحية المختلفة والتى تنشا نتيجة لحدوث طفرات فى التركيب الوراثى حيث يوجد اكثر من 400 مرض وراثى ناتج من هذه الطفرات الجينية وعلى راسها مرض فقر الدم المنجلى Sickle cell anemia والعديد من الامراض الاخرى كامراض القلب والاوعية الدموية والاورام ومرض ضمور العضلات لدى الذكورومرض السكرى. ولهذا فقد اتجهت انظار العلماء حديثا الى استخدام تحليل الجينوم البشرى فى معرفة الخلل فى الجينات ومن ذلك فان تصحيح الخلل فى تلك الجينات المعطبة باستخدام الجينات الصحيحة بدلا منها. وفى بعض الدول يوجد بعض الشركات التى تقوم بتحليل الجينوم البشرى لبعض الاشخاص وبالتالى يستطيع ان يتعرف الشخص ما اذا كانت هناك احتمالية لظهور اى مرض فى المستقبل وبالتالى يستطيع تصنيع الدواء الذى قد يجنبة الاصابة بتلك المرض. ويمكن الاستفادة كذلك من الجينوم البشرى فى تصنيع الأدوية عن طريق الهندسة الوراثية مثل الانسولين وهرمون النمو. وعلى صعيد استخدام التكنولوجيا البيولوجية فان اكتشاف اسرار الجينوم فى الكائنات الحية الاخرى مثل الحيوانات والنباتات حيث يتم استنباط انواع جديدة من النباتات التى تقاوم الامراض وتحتاج الى كميات بسيطة من المياه العذبة لكى تعطى محصول وفير والذى يؤدى الى توفير الكميات المناسبة من الاطعمة خاصة مع الزيادة الهائلة فى تعداد سكان الارض. ولقد اتجهت الدول العربية الى الاستفادة من التقدم العلمى والتكنولوجيا البيولوجية فى مجال الزراعة والصناعة واخيرا اتجهت بعض الدول العربية الى استخدام تلك التكنولوجيا الحيوية فى قطاع الصحة والابحاث (انظر الجدول)
نقمة التطبيق السيئ: مع كل المميزات البالغة فى الاهمية لتطبقات الجينوم البشرى كما ذكر اعلاه الا ان اكتشاف الجينات الوظيفية فى الانسان والكائنات الاخرى قد يكون سلاح ذو حدين لانتاج اشكال مختلفة من الكائنات الحية الغير مرغوب فيها واستخدامها فى الحروب البيولوجية مما يؤدى الى سيطرة بعض الدول على الاخرى ونشوب مشاكل اجتماعية واخلاقية لاحصر لها. فعلى سبيل المثال كلنا نعلم أن الخلايا الجسدية تموت بموت صاحبها ولكن الخلايا الجنسية قد تستمرحية لعدد كبير من الاعوام اذا حفظت حتى بعد موت صاحبها فى ثلاجات تبريد. ومن هنا فان هناك جدل واسع حول امكانية استخدام الجينات المعدلة فى علاج تلك الخلايا وتكوين اجنة تحمل صفات وراثية مختلفة. وكذلك يمكن من خلال معرفة الخريطة الجينية ان يرفض الازواج انجاب اطفال وذلك لاحتمالية وجود اعاقات طفيفة بعد لولادة وحيث جرى العرف على تقبلها فى معظم الاحيان مما قد يؤدى الى نشوء مشاكل اجتماعية ونفسية. ومن خلال الجينوم البشرى ايضا اساءة تطبيقاته يمكن تحسين النسل البشرى باستخدام خاصية الانتقاء مما قد ينتج عنه وجود العنصرية والتحييز الى طراز معين من البشر من حيث اللون والصفات الاخرى. ومن الممكن ايضا فى حالة العبث العلمى وعدم تطبيق اخلاقيات البحث العلمى ان يتم انتاج اجنة بشرية معدلة وراثيا وذلك لاغراض بحثية. ومع اكتشاف الخريطة الجينية فان بعض الحكومات قد تستخدم معرفة الخريطة الجينية ضد بعض الافراد وكذلك الشركات قد ترفض التامين او قبول الاشخاص للعمل لديها اذا ما اتضح ان الخريطة الجينية للمتقدم توجد بها احتماليات للاصابة بالاورام اوالامراض الاخرى مستقبلا.
ومما سبق يتضح لنا قيمة اهمية اكتشاف الجينوم البشرى وفك شفراته للاستفادة وللتطبيق فى شتى المجالات الطبية والصناعية والزاعية وخلافه. ولذلك ومن الضرورى ان تتجه الدول العربية الى الانضمام والاستفادة من تلك الاكتشافات التى قد تؤدى الى وجود علاجات غير تقليدية للامراض المختلفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق