الخميس، 9 نوفمبر 2017

ديجافو_بين_مرآتين


(قصة قصيرة.... بس مش قصيرة أوي يعني)
-بقلم ياسين أحمد سعيد الاسوانى
يهوى شمس مراقصة علامات الاستفهام، لا يمكن أن تتخيل كم الأسئلة الغريبة التى تتسلل لخاطره!
ذات مرة أمسك هاتفه، وضغط رقمه هو، استجابة لتساؤل عبثى لذيذ حول: ماذا لو طلبت رقمى، هل سيرن الهاتف حينها؟
- ماذا لو تواجدت بين مرآتين، كم نسخة منى سأرى؟
ثم انتبه فجأة، عندما فرض سؤال ألح، نفسه:
- لماذا أغلب أسئلتى تتمحور حول هاجس التناظر، حول ما يرتد لى من انعكاس؟!
أأ...، لم يستطع أن يحدد بالضبط، حتى أنه يمقت النظر فى المرايا، وطوال حياته خلت غرفته من أحدها، حتى يخيل إليه أنه نسى ديكور الملامح، التى ترتص على خلفية وجهه الأسمر.
ما السبب إذن؟!
عجزت أصابعه أن تقبض على إجابة مقنعة، لكم هى صعبة تلك الأسئلة التى تتعلق بدهاليز الـ (أنا).
قادته قلة الحيلة إلى أن يفعل ما يفعله أى طالب عاقل فى امتحان، سيبدأ بالأسئلة السهلة التى سبقتها.
ألصق سماعة الهاتف بأذنه، ويمكنك أن تجربها بنفسك لتعرف حل السؤال الأول.
أما عن الثانى، أولًا: هو يدرس (ديكور) بمعهد سينما، أى أنها يعرف المعلومة بالبديهة، فقط استدعاها على مائدة التأمل، وتذكرها بمجرد أن وضع قدمه عند عم إبراهيم الحلاق، دهش الرجل من زبونه المنتظر، الذى نقل بصره نحو تسعين مرة بين المرآتين الأمامية والخلفية.
تجاهل شمس نظرات المصوبة من كل الاتجاهات، الزبائن الملاصقين لكتفه على الكنبة، عم ابراهيم أمامه، وحتى ابن خاله بلال الذى سبقه فى الدور، ينظر إليه فى المرآة المواجهة، دون أن يلتفت، وقد غاب وجهه الأسمر وراء سحب رغاوى كريم الحلاقة البيضاء.
من الناحية الرياضية، ستظل المرآتين يتقاذفا انعكاسه، لتكون النتيجة كما يرى بالضبط، صف من هذا الانعكاس على الناحيتين يصغر روايدًا رويدًا.
إجابة سؤاله هو (ما لا نهاية)، صحيح أن كل صف يبدو حاملًا عشرين أو ثلاثين نسخة منه، لكن الرياضيات لا تكذب، النتيجة بالفعل متوالية انعكاسات لا تحصى عددًا.
عاد شمس إلى نقل بصره ما بين السطحين المتوازيين، لطالما كان يكره المرايا، ولا يصغ فى أى مكان لشهوة النظر إلي انعكاسه خلالها، فلماذا إذن يشعر أنه مر بهذا الموقف من قبل، الحلاق، نظرات بلال، دهشته بين المرآتين، تبادلهما المتلاعب بصورته المنعكس وكأنها كرة تنس طاولة.
يكاد يقسم أن هذه اللحظة بحذافيرها مرت به من قبل، لكن أين، متى؟!
ألفة مجهولة تتردد بين الجدارين المتدثرين بسطح فضى، بل أن لها صوت مسموع بالفعل، أدنى أذنه وقد حاول قدر الامكان، ألا يفعل ذلك بحركة خفيفه غير ملحوظة، و...
"ابن العمة، أعرف أشخاص يقفون أمام المرآة، يقيسون ثيابهم أمام المرآة، ينظفون المرآة، لكن هذه أول مرة أر أحدهم يلصق أذنه بالمرآة".
ارتبك شمس، من ملاحظة ابن خاله، ومن نظرة عم ابراهيم، الذى ابتسم بدوره، وقرر ألا يفوت فرصة المشاركة فى الحفل:
- لا تنسى أن أستاذ شمس أخصائى ديكور بسم الله ما شاء الله، أى أن المرايا ضمن تخصصه، فدعه على راحته، يتفاهم مع مفردات عمله.
تناثرت من فم شمس الكلمات المتلعثمة:
- أنا..؟! أبدًا..أنا لم..
المشكلة، أنه يسمع صوت خافت بالفعل، هذا أقوى من أن يصدق، ربما يهيأ إليه، فى النهاية هو مضطر أن يتوقف، ويعتدل، كى يدفع عن نفسه وليمة السخرية القادمة على شرفه.
استقام ظهره وقد أدرك أن الإنكار سياسة خاطئة،، وقد قرر استبدالها بتعليق يختبئ وراء ستار من التهكم:
- من أدراك، لعل المرايا يمكنها التحدث، فقط لمن يسمع؟!
************
جاهد شمس فى عبور باب الشقة، ممررًا معه تلك اللوحة العريضة بين أحضانه.
ربما (المرور بالجمل من سم ( ) الخياط) أسهل من هذه المشقة.
جذبت الجلبة والدته لتطل من الداخل، مسحت بعينيها تلك الحمولة الغريبة بين يديه، واحتاجت عدة لحظات كى تفهم.
بالكاد، ميزت أطراف عارية من اللفافة عرفت منها أنها ليست لوحة، هى مرآة، بل زوج من المرايا.
- ماذا هذا يا بنى؟
أخبرها بينما هو موحول بين أثقاله، فلوت شفتيها تحدثه عما أهدى الغراب لأمه، وعن أهمية أن ينفق بعقل، خصوصًا أنه مقبل على سن الزواج.
خمس دقائق، وجاء الدور على الأب، خرست طرقات تعليق المرآتين فور دخوله غرفة فتاه.
- مرآتان، جمال أمك مقطع بعضه، حتى تحتاج مرآتين، لا واحدة.
ربع ساعة، برز رأس الأخ يبرز من وراء الباب، هم أن يقول تعليقًا متعجبًا بدوره، لولا أن بتر شمس محاولته.
صوت استنكاري من أنفه كانت كافيًا تمامًا، أتبعها بشخشطة:
- أصرت "ملطشة" هذا البيت أم ماذا؟!
أوصد الباب خلف أخيه بالمفتاح، واستغرق فى عمله الذى يجيده، وبالفعل أنهاه بشكل قياسى، أصابعه كمهندس ديكور ما كانت لتخذله قط.
وقف يتأمل المرآتين الذى احتلتا الجدارين المتقابلين، عشرات النسخ منه تبادله نفس النظرة.
طفى على السطح كرهه للمرايا طوال عمره، فأغمض عينيه، ليعطل حاسة البصر مؤقتًا، ويطلق العنان للسمع هذه المرة.
صمت تام إلا من أزيز دوران المروحة فى الأعلى.. دار حول نفسه مرة واثنين.. لا شئ أيضًا..
لا بأس، ربما خسر بضعة نقود، لكن يكفيه هذا الجو الملهم، غرفته بدت أكثر براحًا ومساحة بكثير، لطالما حدثه أصدقاءه عن هذا التأثير للمرايا، واستخدموه فى تطبيقاتهم لاعطاء انطباع بالاتساع، وعلى الضد تمامًا بالنسبة إليه، إذ كان يتجنبها بطبعه، ويخبرهم أن ذلك غباء، لا يصلح للكادرات السينمائية، حيث أن انعكاس الإضاءة يؤثر على الكاميرات.
أما الآن، فالاعتراف بالحق فضيلة، يشعر حاليًا أن هذا النفور العام كان تعسفيًا، لسبب ما، ألف وجوده بين هذا الذراعين المصقولين، وكأنما استكان فى حضنهما منذ ألف عام.
اتخذ طريقه إلى الباب، تتبعه العشرات من الانعكاسات، و..فجأة أحس أنه اصطدم بجسم غير مرئى، فتوقف.
"أبالا".
تطلع حوله، هل سمع صوت يتردد داخل ذهنه يلفظ الكلمة؟! وما الذى جعله جسده يتوقف بهذا الشكل؟!
أنصت جيدًا، تلفت مرة آخرى.
واضح أنه يتوهم، هذا ليس غريبًا على شباب معهد سينما على أى حال.
خرج ليوصد الباب خلفه.
************
" عندما تقف أمام المرآة، يشبه إلى حد كبير رقم 11، مواجهة بين نظيرين متماثلين، نلاحظ حتى أن العلاقة بين طرفى الرقم، مميزة دومًا، لو جمعت الواحد مع الواحد، يعطونك 2 أو مفهوم (الازدواج)، فى الطرح تجد نفسك أمام الصفر أو العدم، فى حين أنه الرقم الوحيد الذى يبقى صامدًا ضد الضرب أو القسمة، فيظل كما هو...".
- هيه، كفى سخفًا يا شمس، فهمنا مرادك دون حاجة للاستطراد فى كل هذه المحاضرة، خصوصًا أننى أراك تنحت علاقات رياضية لا علاقة بصلب الموضوع، أى تنظر لمجرد التنظير.
قالتها ابنة خاله مداعبة، بينما شقيقها يعتصر جبهته من السأم وفضل الاستمتساك بعروة الصمت.
فى المقابل، ألحت الكلمة السابقة كجرس فى ردهات عقل شمس، فسأل مستوثقًا:
- أحقًا ترين أننى سخيف يا إسراء؟
- أمزح معك.
- أسألك الصدق: أبالفعل تعتقدى أننى كما نعتينى؟
ظل لمدة ساعتين يطاردها بالسؤال القلق، فر بلال فى منتصفها بالطبع، وقفز فى أقرب محطة توقف بها المترو قبل أن يصاب بالفالج.
أما عن إسراء، فقد تحاملت على نفسها، حتى وصلا إلى شارع جمال الدين الأفغانى بالهرم، هنا مفترق الطرق بين معهديهما، ودعته صادقة:
- يا شمس، كف عن الاهتمام بما يراه الناس عنك، أنت بالضبط كما ترى نفسك و..
اصطدم به أحد الطلبة العابرين، التفت الاثنان، تلاقت العيون، عقّب الآخر كاشفًا عن ابتسامة معتذرة:
- المعذرة يا كابتن (شيكابالا).
يملك شمس بشرة سمراء تضخها جيناته نصف السودانية، نفس هذه الجينات الأصيلة اتنفضت فى غضب مكتوم، وهو يتطلع إلى ابتسامة محدثه، الاعتذار اتسم بطلاء من المراوغة، فلا تعرف ماهية باطنها، أدعابة هى أم السخرية؟!
فى الثانية التالية من الموقف، سبق تعجب شمس غضبه، فقد شعر أنه مر بهذا الموقف قبلًا، آه، تلك الهمسة أمام المرآة، لقد سمعها خطأ بالأمس، سمعها ناقصة.
كانت اسم لاعب النادى الأبيض السابق، لم يهتم الشاب أن يفكر بالموقف أكثر، فالغضب عاد للتجمهر خلف سد الاستغراب، وسرعان ما كسره، بالكاد تمالك شمس نفسه، فوجود قريبته معه لا يترك له رفاهية الدخول فى شجار.
و...
شاركته إسراء متابعة العابر المبتعد، ثم ربتت على كتفه، بينما تكرر جملتها التى صارت ذات مغزى أوقع:
- سأكون مملة، وأقولها لك ثانية: كف عن الاهتمام بما يراه الناس عنك، أنت بالضبط كما ترى.
حاول قريبها أن يتماسك، ويلجم شرارات التهور التى تتطاير داخله، فغير الموضوع:
- المهم، متى مقابلة الاختبار للفيلم؟
صفقت إسراء جذلًا، وكأنما ارتدت طفلة صغيرة:
- بعد الغد.
- فى انتظار أن ترفعى رأسنا إذن، يا بنت الخال،- نظرة مختلسة لساعته- أستأذنك الآن، فلدى محاضرة.
- سلام.
- سلام.
*********
نفس الموقف تكرر بحذافيره.
مرآتيه تلاعبتا به، وصوت بلا صوت يهاتفه بينهما، بموقف يشك أنه حدث فعلًا.
هذه المرة، خيل إليه أنه أمام وجه إسراء، ثم تغيرت ملامحها السمراء الفاتنة إلى ملامح رجولية يعرفها جيدًا، تشترك معها فى نفس لون البشرة.
ارتد شمس إلى الوراء فزعًا، هذا أحمد زكى، صحيح أن إسراء ممثلة جيدة، لكن ليس لدرجة أن تتحول إلى أحمد زكى.
- شمس، شمس هل تسمعنى؟!
- هه ؟!
وكأنما أفاق من حلم عميق، فكررت إسراء بأسى:
- هل يبدو ما حدث لى هامشيًا إلى ذلك الحد، لدرجة أنك لا تعيرنى أذنك حتى؟
همت بحمل حقيبتها، والنهوض من الكرسي المجاور له، إلى آخر فى الصف البعيد من عربة المترو.
استوقفها شمس بكفه:
- لا تكونى حنبلية، لكن صدقينى أو لا تصدقى، شعرت بأننى مررت بهذا الموقف قبلًا، وكنا نتبادل نفس الحديث، وجاءت سيرة أحمد زكى.
استكانت للجلوس ثانية، أو للدقة سقطت سقوطًا على المقعد.
العربة شبه فارغة حولهما، تهتز على ايقاع حركة المترو الأرجوحية.
عادت الفتاة إلى الاسترسال بمرارة دفينة:
- لا أعتقد، من ناحية ما علاقة أحمد زكى بالموضوع، ومن الناحية الأخرى، هذه أول مرة أقدم فى اختبار تمثيل لفيلم، واسمع المخرج يقول فى وجهى: قصة الفيلم لا تتضمن أن نأتى للبطل الوسيم، ببطلة من جنوب أفريقيا!
انفجرت شظايا الاحتقان الذى يسكن عروق إسراء، فاستطردت تحكى كل التفاصيل للمرة الرابعة، ربما ليس كلها تمامًا، أستحت أن تخبره بنظرات المخرج المتخلسة لمنحنيات جسدها، والتى لم تخفى عليها، واضح أنه يتحفظ على لون مرشحة لبطولة فيلمه، بينما لا مانع إطلاقًا أن ينهشه بعينيه.
صمت شمس، لا يدرى ماذا يقول فى مثل هذا الموقف، هل يواسيها بكلمات مشجعة، فمن يواسيه هو إذن، وقد شعر وكأن الصفعة اللفظية وجهت إليه ذاته؟!
وفجأة تذكر شيئًا، لقد انهار الحاجز، وأضئ الرابط التائه فى ردهات ذهنه الخلفية:
- أحمد زكى.
قلبت إسراء وجهها فى السماء، وهى تضع يدها على قلبها، عسى ألا تسد الجلطة شرايينها التاجية:
- ماله مرة أخرى.
حاول أن يهدأها شارحًا:
- فهمت لماذا تذكرته، وما علاقة هذا بموضوعنا، نفس الشئ حدث فى فيلم (الكرنك)، قال المنتج الشهير اردًا على ترشيح أحمد زكى، الذى كان فى بدايته حينها: لن نأتى بولد أسود، ليقوم بدور البطولة أمام سعاد حسنى.
استراح أخيرًا بعد أن أنهكه البحث داخل دهاليز عقله، ربما نحج هذا فى أن يبدد قليلًا من سخطه للموقف، الذى تعرضت له قريبته.
ابتسم محاولًا أن يستخدم المعلومة فى الربت على قلب قريبته:
- هل رأيتِ، هذا ليس موقف تغضبى منه، بل أثبتى من خلاله أنك على الطريق الصحيح، ومررت بنفس ما مر به العظماء.
سرقت كلمته جزء من عبوسها، وزرعت مكانه ابتسامة.
- لديك حق، "ديجافو"، الحياة ما هى إلا "ديجافو" يكرر نفسه.
- ماذا، هل هو دواء؟
مرة آخرى عادت إسراء إلى رد عنقها إلى الوراء، تنظر إلى الأعلى محاولة تمالك أعصابها.
توقف المترو، بضعة أقدام تهبط، وأخرى تصعد، وما إن عاد الهدوء نسبيًا، استرسلت إسراء:
- أنها حالة تعنى الاحساس بأنه مررت بنفس الموقف من قبل، نفس ما كنت تتحدث عنه، كما يفترض يا أخى أن هناك فيلم شهير تحدث عن الظاهرة، فيلم (دينزل واشنطون)، غير معقول ألا تكون شاهدته؟
- لا تفترضى أننى شاهدت كل ما أنتج فى تاريخ السينما، لمجرد أن دراستى ذات صلة بالمجال، لكن... حدثينى عن ذلك الديجنفو.
- اسمه الديجافو، فى الحقيقة لا أعرف المزيد سوى ما شاهدته فى الفيلم، لا تفترض لأننى أعرف كل شئ عن موضوع، لمجرد أننى أخبرتك عناوين عريضة أملتكها عنه.
صمت برهة، حتى تتيح له أن يستوعب ردها على أسلوبه بالمثل، ثم أكملت:
- ما أستطيع أن أنصحك به، أن تكف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا الموازية، صحيح أنها تمنحك بصيص من "الآتى"، لكن تراكم انعكاساتها أكبر من يتحملها عقول بشر، مع الوقت، فقد يؤدى جرعة زائدة منها إلى الهيستريا..أو انفجار شرايين مخك، و... لماذا تنظر بهذه الطريقة؟!
زاغت أنظار شمس بين الزجاج فى المترو أمامه وخلفه، دون أن يرد مباشرة.
كررت إسراء مناداته بحذر، فرد بعقل كاد يشط من الجنون:
- أحاول أن أقنع نفسى أنها خدع الأضواء، لكن ألا تلاحظين أن جسدك أصبح شفافًا، إننى أرى ما وراءه بوضوح، و-وجه نظره إلى قبضة يده، ثم بقية جزعه، فساقيه- نفس الشئ بالنسبة لجسدى؟!
كادت تجيبه ببساطة، لولا أن قاطعها بغتة، منتبهًا لشئ آخر:
- ثم كيف علمت بمسألة هواية التحديق فى المرآة مؤخرًا؟! لقد أخبرتكم بنظريتى حول الانعكاسات فقط، بينما كل ما يعرفه الجميع عنى، أننى أكرهها.
اعتصرت السمراء بغيظ، القائم التى تسند عليه كوعها، بينما وجهها يصير أبهت فأبهت:
- كنت سأخبرك، وأنت من قاطعنى، لأن اجابة السؤالين واحدة.
دنت منه حتى كادت تدغدغ أنفاسها وجهه:
- إجابتهما؛ أنك لست حقيقيًا.
بلغ الهلع مبلغه من الشاب، خصوصًا أن المشهد كله صار باهتًا شفافًَا كأنما ينعكس على سطح بحيرة.
- ولا أنا، كلانا وما حولنا صورة استباقية منعكسة داخل عقل شمس.
بشكل ما، انكشفت الحجب عن قريبها هذه اللحظة، فرأى حوله عشرات النسخ من عربات المترو نفسها، بداخلها عشرات النسخ منه وقريبته.
خرج السؤال المشدوه من أفواه جميع الـ (شمس) فى نفس اللحظة:
- لماذا أنا؟! كل الناس تقف بين مرايا موازية، عند الحلاق، وفى صالات تدريب الباليه، إلخ، فلماذا أنا؟!
أجابت عشرات الـ (إسراء) ببطء:
- ليست كل الأرواح، ذات حساسية واحدة تجاه نسخها المعكوسة.
و....
- شمس، شمس هل تسمعنى؟!
- هه ؟!
وكأنما أفاق من حلم عميق على نفس المشهد، نفس عربة المترو، نفس الألفة تجاه كل ما حوله، نفس (إسراء) تكرر بأسى:
- هل يبدو ما حدث لى هامشيًا إلى ذلك الحد، لدرجة أنك لا تعيرنى أذنك حتى؟
همت بحمل حقيبتها والنهوض، فاستوقفها بكفه:
- لا تكونى حنبلية، لكن صدقينى أو لا تصدقى، شعرت بأننى مررت بهذا الموقف قبلًا، وكنا نتبادل نفس الحديث، وجاءت سيرة (أحمد زكى)، وهناك نسخ ومرايا.
أنا أتألم أكثر منك لذلك الموقف الذى تحدثتى عنه، لكن امنحينى ثانية من فضلك، ستكون فاصلة فى أشياء كثيرة بالنسبة لى.
أسرعت يده إلى جيبه، وأخرج حاسبه اللوحى، وسطر فى مربع البحث "ديجافو"، أول نتيجة انتمت لموقع ويكبيديا، همس لنفسه:
- لا غضاضة، أثق بويكبيديا.
استغرق ثوان حتى فتحت الصفحة، لهج لسانه بدعاء خفيض ألا تخذله باقة النت التى تلفظ ميجاتها الأخيرة بالفعل، وألا تقتله زميلته ظنًا أنه يستهتر بجرحها، أها، أخيرًا فتحت الصفحة.
قفزت عيناه على السطور:
- ديقافو Déjà vu.
أول القصيدة كفر، لطالما يخرجه عن شعوره تلكم الترجمة العقيمة التى تحيل الـ (g) إلى (ق)، اصطبر شمس كى يكمل:
- كلمة فرنسية تعني "شوهد من قبل"، وتعبر عن الشعور الذي يشعر به الفرد بأنه رأى أو عاش الموقف الحاضر من قبل.
هنالك أيضا تفسير علمي آخر لظاهرة (دِيْ چاڤو) وهذا التفسير يتعلق بحاسة النظر، النظرية تقول بأن إحدى العينان تسجل الحادثة أسرع قليلًا.
- هذا هو السبب إذن؟!
خمن شمس أن الوقوف بين مرآتين، محفز معقول لأن تسبق إحدى العينين الآخرى، فلربما هى ما يسبب ذلك الشعور.
منحه التفسير راحة نسبية، فأغلق اللوح، ودسه فى جيبه، وألتفت إلى إسراء، هاله نظرة اللوم فى عينيها الحزينتين.
فسعى أن يصلح الموقف، ارتسم على وجهه جليًا مشاطرته لألمها، وبدأ حديثه:
- ماذا كنا نقول؟ أعتقد كنا نتحدث عن أنها ليست أول وآخر فرصة، ممثلين عظماء مروا بنفس الموقف، وهذا يشى بأنك على خطاهم، هل تعلمين ماذا قيل لـ (أحمد زكى)، عندما ترشح لـ.......
**********
جلس شمس فى مركز غرفته، بين المرآتين بالضبط، لم ير أى انعكاس له، لأن كلاهما كان مغطى بملاية عريضة.
" إحدى العينين تسبق الآخرى فى رصد الصورة، مما يهيئ لك أن شاهدت ما تراه من قبل"
" كف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا، صحيح أنها تمنحك بصيص من "الآتى"، لكن تراكم انعكاساتها أكبر من يتحملها عقول بشر"
" كف عن إسلام عنانك لإغواء المرايا،"
"إغواء المرايا"
ابتلع شمس ريقه، لطالما سفه من أصدقاءه المدخنين، خاصة عندما يقولون له: لا نستطيع الاقلاع عنها، الآن التمس لهم العذر، المرايا التى لم يطيقها يومًا، أصبحت إدمانه حاليًا.
مهلًا، الأرجح كان يكذب على نفسه أنه لا يطيق المرايا، لأنه فى المقابل، كان يهتم –بشكل مبالغ فيه- بانعكاس شخصيته فى عيون الناس، ورأيهم فيه، فما الفارق؟!
كلها مرايا بشكل أو آخر.
أدت هذه المكاشفة مع النفس، لأن يحسم أمره سريعًا.
" فقد يؤدى جرعة زائدة منها إلى الهيستريا..أو انفجار شرايين مخك"
تجمدت قدم شمس التى كاد يقدمها لتوه، الاختيار صعب، أغرته فكرة أنه سيتذوق فقط، نظرات قليلة ثم يعود إلى تغطية المرآتين، ليس من المعقول أن يحدث له خلال هذه اللويحظات.
أتاه نداه داخلى: هذا نفس ما قاله مرضى السكر، عند أول مرة يخرقوا التعليمات الغدائية، فيسقطوا فى غيبوبة، ونفس ما قاله معاقرى الخمور، عند أول كأس منها.
- قطع لسانك، هم ضعفاء، لا يستطيعون التوقف فى اللحظة المناسبة، أما أنا فقوى.
خرس الصوت الداخلى أمام كل هذا الاغترار، بينما تلفت شمس يبحث عن أقرب المرآتين إليه، كى يعريها عن غطائها، أأأ...انتبه أنه فى المركز بالضبط، أى أنه على مسافة واحدة من الاثنين، أى حماقة؟!!
بدأ الحركة بالغريزة نحو التى عن يمينه، رويدًا رويدًا تطلعت إليه نسخته المنعكسة بنفس النظرة المجنونة، بعد قليل ستتقافز فى ذهنه عشرات الصور من المستقبل، وسيستيقظ فى كل موقف، يكتشف أنه عاصره قبلًا.
انكشفت المرآه تمامًا، فاتجه إلى الأخرى، آن للمدخن أن يلثم فم معشوقته.
*************
- شمس! ولدىىىى!
هلعت الأم، وهى ترى ابنها يفترش منتصف أرض الغرفة، والدماء تنز من أذنيه مدرارًا.
قطعت المسافة التى تفصلها طيرانًا، لتحتضنه، وتهزه بحثًا عن أى علامات للحياة على محياه.
استمر صراخها الملتاع، حتى تجمع المنزل كله، لفت نظرها لأول مرة، أن كل عين من عيني الفتى مصوبة فى اتجاه مختلف، التفت بحرطة فطرية نحو ما يتطلع إليه، فلم تجد سوى سوى صفوف من صورتها المنعكسة على الناحيتين.
(تمت)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق