عندما قام الاعتداء الثلاثى الغاشم على مصر كنت طفل صغير ..لكننى كنت اقرأ الصحف ..وواعى لما يدور حولى ..كان الحماس يجيش بصدور معظم المصريين ..اذكر اننا كانا نصفق للمدفعيه المصريه المضاده للطائرات وهى تطارد الطائرات المعاديه فى سماء القاهره ..كان اخى الاكبر ..فائق ..طالب بمدرسة شبرا الثانويه ..ضمن التطوعين للدفاع عن مدينة بور سعيد الباسله ..كان يتدرب ليل نهار مع زملاءه استعدادا لملاقاة الانجليز ..اما انا فكنت مع اطفال الحى نهتف بسقوط بريطانيا ..التى اصبحت دوله غير عظمى وفرنسا واسرائيل ..كان احد زملائى من الصبيه لديه ميكرفون هورن كبير ...كنا نصعد به الى سطح عماره عاليه مواجهة لعماره يقطن بشقتين منها اجانب ..غالبا كانوا من الفرنسيين اليهود ..صببنا عليهم لجام غضبنا ...كنا نقول لهم ليل نهار اخرجوا من بلادنا وعودوا لبلادكم ...ويبدو انهم سمعوا نصيحتنا واختفوا بعد الحرب ..كان عبد الناصر يلهب حماسنا ..بعد ان استمع الشعب المصرى كله لخطبته فى جامع الازهر الشهيره ..ثم توقف اطلاق النار ..وانسحبت جيوش المعتدين ...كان اخى فائق هادىء قليل الكلام ..الا انه حدثنى عن رغبته العارمه فى الالتحاق بالكليه الحربيه ..وانه يحلم بأنه يركب دبابه ويحارب الصهاينه ..وبعد عامين حصل على الثانويه العامه وبمجموع كبير ...وبناء على رغبة والدى وتعليماته التى لا يسمح بمناقشتها ..التحق فائق بكلية الهندسه ...كان متفوق رياضيا وعلميا وبعد خمس سنوات حصل على بكالريوس الهندسه ...فى هذه الفترة اعلنت الكليه الحربيه عن قبول دفعه من المؤهلات العليا ...كان فائق من اول المتقدمين واجتاز كل الاختبارات بنجاح ..وبعد عدة شهور قضاها فى الكليه الحربيه ...تخرج ضابط برتبة ملازم اول ..كنت اضحك واقول له ..لقد حققت حلمك القديم ...ورينا حاتعمل ايه ..؟ فور تخرجه التحق بسلاح المهندسين ...وبعد سنتين قامت حرب يونيو 1967 حيث كان يخدم بالقرب من السويس .رأيت الانكسار والحزن على وجهه ..الا انه لم يكن منكسرا ..كان يردد دائما ان الجيش المصرى لم يحارب ...اتذكر انه قال لى كلام غريب فى هذا الوقت ..كان من ضمن ما قاله ...اسرائيل ليست دوله ضغرى بل دوله عظمى ..متقدمه علميا عنا بكثير ...الحرب هى حرب حضارات ولن ننتصر الا لو تحضرنا واخذنا بأسباب الحضاره ..كان فائق من اوائل الضباط الذين عملوا مع الشهيد احمد حمدى ..استعدادا لمعركة العبور ...امدنا فى هذا الوقت الاتحاد السوفيتى بمعدات كان من ضمنها كبارى حديديه لعبور القناة وطوال ست سنوات كنت اراه يعمل ليل نهار ولا يعود للبيت الا لفترات قصيره جدا ...حدثنى خلال هذه الفتره انه وزملاؤه يقومون بتدريبات العبور ..بمنطقتى بنى يوسف والخطاطبه وبنى سلامه بالجيزه ...كان يحضر معه للمنزل اوراق وملفات ولوحات يعمل بها طوال الليل كما لو كان طالبا يعمل واجباته الدراسيه ..كنت اسأله دائما ..متى الحرب ؟..كان رده دائما ...لسه شويه ..اما نتدرب كويس ..وفى احد الايام كنت فى زياره للقاهره حيث كنت اعمل فى اسوط ...وكان ذلك فى اول رمضان سنة 1973 قابلته ..قال لى انا حاسس ان العمليه قربت ..لم ارد عليه فقد كان الشعب المصرى قد مل من تلك الوعود ...وفوجئنا بالحرب تبدأ يوم 6اكتوبر الموافق 10 رمضان ...كان يوما مجيدا ...وفى الايام التاليه شاهدت الجيش المصر العظيم عبر الصحف ووسائل الاعلام ..يعبر بدباباته ومعداته وقبلها افراده واجتياز هذا المانع المائى المهول مستخدمين كبارى سلاح المهندسين ...كنت اقول الله اكبر ..شأنى شأن كل المصريين ...وكان احمد حمدى من ضمن اوائل الشهداء ..اثناء وقوفه على احد المعابر بجوار اخى فائق ..الذى حكى لى فيما بعد تفصيلات استشهاد هذا البطل ..وانتهت الحرب واستمر فائق بالقوات المسلحه حتى احيل للتقاعد برتبة عميد سنة 1984 ثم سافر للعمل بجيش الامارات ومرت الايام وفى احد ايالايام عام 1997 وفى اثناء وقوفى فى طابور المصعد بمجمع التحرير حيث كنت اعمل لاحظت شخص لا اعرفه ينظر الى ..وفجأه سألنى ...انت اخو العميد فائق سعود فأجبته بنعم ..فقدم نفسه لى انه اللواء مهندس جلال زكى رئيس مرفق مياه القاهره ..فرحبت به ..فقال لى ..انت شبه فايق قوى ..اخباره ايه؟انا اعرف انه بيشتغل ضابط فى جيش الامارات..... واصر على دعوتى لمكتبه وتناول الشاى فوافقته ..وفوجئت به يبادرنى ..انت عارف ان فائق اخوك كان له دور بارز وهام فى حرب اكتوبر ...؟واعتقادا منى انه يجاملنى ..قلت له ..كل من اشترك فى حرب اكتوبر كان له دور بارز ..فقاطعنى ..لأه ..لأه ..فائق كان له دور بارز وهام فى حرب اكتوبر ولم يأخذ حقه ..انا عارف ان فائق كتوم وما بيتكلمش ..انما انا لازم احكيلك هو عمل ايه ..ده تاريخ ولازم يتقال ..وبدأت استمع لكلامه بتركيز ..فايق كان ضابط معانا فى الكبارى ..فى الكبارى ..فى احد الايام وقبل حرب اكتوبر بحوالى سنه ونصف ..استدعانى العميد احمد حمدى وطلب من الحضور صباح باكر فى ساعه مبكره ..لان هناك مهندس برتبة رائد سيقوم بإجراء تجربه على اختزال وقت تركيب وتجهيز كوبرى العبور الى ثمانية ساعات بدلا من 11 ساعه وهو افضل رقم وصل اليه الخبراء الروس ..واضاف ان معظم قيادات سلاح المهندسين سوف يحضرون التجربه ومعهم الخبراء الروس ...وفى الموعد المحدد بدأت كتيبه الرائد فائق سعود التجربه ...كان الخبراء الروس غير سعداء بهذه التجربه ..بل قالوا صراجة إن هذا هراء ومضيعه للوقت ...لكن العميد احمد حمدى رد عليه بحزم ...لابد ان نعطى لهذا الضابط فرصته ..واضاف احمد حمدى ...هذا الضابط اعرفه جيدا ...ولا يتكلم من فراغ ...ومادام قال فسوف يفعل ..كانت خطط العبور تطالب دائما بتقليل واختزال تلك الفتره لان الدقائق تعنى الكثير ....ومرت الساعات الاولى دون ان يشعر احد بأثر ملموس ..نظرا لاختلف التكتيك والاسلوب ..وبعد اربع ساعات ونصف بدأت تتضح الصوره ..ورويدا ..رويدا ..تجسمت صوره الكوبرى ..وانتهت الكتيبه من تجهيز الكوبرى العبور تماما خلال ست ساعات ونصف ...وتقدم الرائد فائق سعود ليعطى للقائد العميد احمد حمدى ..تمام الكوبرى ..وقال له ...الكوبرى جاهز للعبور يا فندم ...وفى مشهد لا ينسى وقف الجميع واحترما واعتزازا بهذا الضابط المصرى الشاب ...وفى ذهول وقف الخبراء الروس وهم غير مصدقين ما شاهدوه ..ومن موقع التجربه اتصل احمد حمدى بوزير الدفاع ..الذى اتصل بالرئيس السادات ..الذى اتصل بالعميد احمد حمدى وهنأه على انجاز رجاله الرائع ...وشدد عليه بتوصيل تلك التهنئه والمباركه لكل رجال هذه الكتيبه ...وخلع العميد احمد حمدى ساعته وقدمها هديه للرائد فايق ..وهو يقول ..كان نفسى اقدملك احسن من كده الف مره ...كل هذا والرائد فايق يقف منضبطا هادئا متواضعا ..وقامت الحرب وكان ما كان ...وانتهى اللقاء وشكرته وانصرفت ..وبعد هذا اللقاء بعدة اشهر عاد فائق من الامارات العربيه...كانت عودته الاخيره حيث دخل المستشفى ..وكان قد عاد من رحلة علاج غير ناجحه فى الولايات المتحده الامريكيه ....وعندما قابلته وهو فى المستشفى كان هادىء مؤمن مستسلم لقضاء الله ..اردت ان اسرى عنه ..فحكيت له عن لقائى بالواء جلال زكى ..فسألنى عن احواله ..وقصصت له عما قاله عنه ..فابتسم ..وقال ...هو لسه فاكر ..وشرد بفكره ولازالت ابتسامته الهادئه تكسو وجهه.. كما لو كان يتذكر تلك الايام الخوالى ..وفى فجر يوم 11 نوفمبر سنة 1997 صعدت روحه الطاهره لبارءها ...واصبح زكرى ...تذكرت تلك القصه وانا اشاهد مسلسل ...حارة اليهود ..اتمنى ان اكون قد اصبت ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق